كيف نحمي أبناءنا من الانحرافات الفكرية؟
يشتكي كثير من الآباء في الآونة الأخيرة من ظاهرة الانحراف الفكري لأبنائهم، وسلوكهم مسالك شاذة في التفكير وإبداء آرائهم في الأمور السياسية أو العقدية: فهذا الولد لا يرى تطبيق شرع الله إن رفضته غالبية الناس؛ لأنه (ليبرالي).
يشتكي كثير من الآباء في الآونة الأخيرة من ظاهرة الانحراف الفكري لأبنائهم، وسلوكهم مسالك شاذة في التفكير وإبداء آرائهم في الأمور السياسية أو العقدية: فهذا الولد لا يرى تطبيق شرع الله إن رفضته غالبية الناس؛ لأنه (ليبرالي)، الفكر وآخر يجادل أباه في عدم صلاحية تطبيق الحدود في عصرنا الحالي، وثالث سحبته الشبهات إلى الولوج في بحر الإلحاد.
خطورة الانحراف الفكري:
يكمُن خطر الانحراف الفكري في أنه ليس كالانحراف الأخلاقي الذي يمكن علاجه بكلمات الوعظ والنصح، كما أن خطره من الممكن أن يصل إلى الخروج من الملة؛ لأنه يصطدم بمسألة الاعتقاد، فكل المناهج الأرضية، السياسية والاقتصادية، قائمة على فكرة مركزية تصطدم بأصل الدين، فعلى سبيل المثال: الليبرالية قائمة على (الحرية المطلقة)، و(تقديس الذات)، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي لاشييه في قوله: "الليبرالية هي الانفلات المطلق"، وهو ما يصطدم مع أصل الإسلام وهو الحرية المنضبطة، فالشريعة لها قواعدها وثوابتها وأصولها لا تتغير ولا تتبدل عبر العصور.
وقد تسبب الانحراف الفكري والعقدي قبل ذلك في زوال دول بأكملها نظراً لانحراف فكر أمرائها، وقد استشهد الإمام ابن تيمية بأن من أحد أسباب سقوط الدولة الأموية هو فساد فكر مروان بن محمد (آخر خلفاء بني أمية)، بسبب فساد مربيه الجعد بن درهم (صاحب الفكر المنحرف في اعتقاده بالأسماء والصفات)، فقال رحمه الله في (مجموع الفتاوى)، "وهذا الجعد إليه ينســب مروان ابن محمد الجعدي، آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة؛ فإنه إذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل انتقم الله ممن خالف الرسل وانتصر لهم".
أسباب الظاهرة:
ترجع نشأة ذلك الانحراف إلى عوامل عدة، بعضها مرتبط ببعض، منها: ضعف التربية العقدية، وعدم تكوين (مناعة)، تكون حائط صد مقابل الأفكار المنحرفة والشبه العقدية تجاه عقل الشخص، فإن لم يؤسس بناء العقيدة بشكل جيد ويتم حل كل معادلاته الصعبة عند الشخص وبلورة قضية الحاكمية في رأسه، فسيظل عرضة لأي شبهة تعرض عليه.
كما أن الانفتاح الشديد الذي نعيشه، والعولمة التي جعلت العالم كالغرفة الواحدة، جديران بأن يثيرا شبهات فكرية وعقدية كثيرة لمن لا يملك مناعة قوية منذ الصغر، وجديران بهدم قناعات قديمة تربى عليها الشخص مع أي ريح شبهة. ولبيان خطورة الأمر يقول الرئيس الأمريكي السابق كلينتون: "ليست العولمة مجرد قضية اقتصادية بل يجب النظر إلى أهمية مسائل البيئة والتربية والصحة".
ومن المعروف أن القوي يفرض ثقافته على الضعيف، بل إن الضعيف يلهث وراء تقليده حتى لو كانت بضاعة القوي مزجاة في بعض الجوانب، مثل: الدين أو الفكر السياسي والاقتصادي. فإن من بني الإسلام من يرون في تقليد الغرب وانتهاج مناهجه المنحرفة تقدماً ومواكبة، فالفجوة التي بيننا وبين الغرب في الوقت الحالي فتنة لمن لم يترب على عقيدة صحيحة.
وفي ذلك يقول ابن خلدون: "ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في جلسته، ومركبه، وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله. وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، وكيف تجدهم متشبهين بهم دائماً، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم، حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلبة عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو الحال في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلاقة -أي الإسبان-، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل على الجدران والمصانع والبيوت، حتى يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله".
علاج الظاهرة:
بلا شك، إن الانحرافين الفكري والعقدي وجهان لعملة واحدة، وإن سبب نشأتهما نابع من منبع واحد ألا وهو إهمال التربية العقدية التي تبلور عند الأبناء قضية الحاكمية، وتمحو من عندهم أي شبه متعلقة بقضية التوحيد "فنحن في أيامنا هذه أحوج ما نكون إلى ترسيخ هذه المعاني، حيث إن ما يسمعه الطفل ويردد في كثير من وسائل الإعلام بات خالياً من هذه الأمور الجوهرية، وحيث تجتاح العالم موجات اللهو والمرح واللعب والقصص والأعمال الدرامية التي شغلت أذهان الناشئة بكل شيء إلا قضية التوحيد وقضية الهدف الأكبر من الوجود!" (دليل التربية الأسرية، د. عبدالكريم بكار).
فغالبية الشباب الذين تحاورت معهم من الملحدين أو الذين ينسبون أنفسهم إلى التيار الليبرالي أو الاشتراكي أو ما شابه ذلك، عندهم قصور رهيب في تربيتهم العقدية، فلا يعرفون شيئاً عن الولاء والبراء، ولا يعلمون أساسيات لا يسع شخص مسلم جهلها في العقيدة، فلذلك يقعون في تلك الانحرافات بسبب نقص تلك المناعة التي تكون حائط الصد بالنسبة إلى أي شبه أو إشكاليات فكرية.
وفي ظل العولمة التي نحياها، لاسيما ونحن في موضع المتلقي من الحضارات الأخرى، وتقدم وسائل التكنولوجيا التي جعلت من المراقبة الكاملة أمراً شبه مستحيل، لا ضامن لاستقامة سلوك الإنسان المسلم إلا الاهتمام بالتربية العقدية التي تضبط بوصلة تفكير المسلم.
إشارة على الطريق:
وحتى نضع اللبنة في مكانها الصحيح لابد للتربية العقدية أن تكون في سنٍ مبكرة، فالطفل يتعلم في سنواته الأولى أكثر بكثير مما يتصوره الآباء، فإن (90 في المئة من العملية التربوية تتم في السنوات الخمس الأولى) (مسؤولية الأب المسلم.. عدنان باحارث). وقد أكدت نسبة كبيرة من بحوث علم النفس أن قسماً كبيراً من النمو العقلي واللغوي للطفل ونمو ذكائه وتفكيره يتم خلال الأعوام القليلة الأولى من عمره، كما أنه في السنوات الأولى يبني الضمير الإنساني مما يجعل الطفل يميز الخطأ من الصواب.
الشاهد من الكلام أنه كلما تم ترسيخ تلك المعاني للطفل في صغره انتظم تفكيره في الكبر، فالانحراف الصغير يكبر مع مرور الأيام ليصير كبيراً، فما بالك إن كان الانحراف كبيراً من الأساس بإهمالنا التربية العقدية؟!
وأخيراً، العقيدة تعد ضرورة من ضروريات الإنسان التي لا غنى عنها، كما أنه يميل إليها بحسب فطرته، فحري بنا، كمسلمين وأصحاب عقيدة فريدة، الاهتمام بالبناء العقدي لأبنائنا بداية من تعليقهم بالله، وإرشادهم إلى الإيمان بالله ومراقبته في السر والعلن، وغرس أمر الحاكمية في أذهانهم، ومحو كل شبهات الاعتقاد من تفكيرهم.
عبد الرحمن ضاحي
- التصنيف: