قصة النفس والسرداب (أو القبو)

منذ 2014-09-21

أرغب في البكاء ولا أعرف لماذا؟ لماذا لا أشعر بالسعادة؟ لا أحب الحياة.. عبارات تتردد على كثير من الألسنة، أو تجول في نفوس أصحابها دون أن يفصحوا عنها.. فما المعنى الحقيقي لهذه الأسئلة؟ وما التغيير اللازم لينعم أصحابها بالسعادة ومن ثم يتمكنوا من أداء العبودية الحقة وإعمار الأرض؟

لأسباب كثيرة تبدأ منذ طفولتي، منذ أن يبدأ وعيي بما حولي ومَن حولي، أبدأ بالانشغال المبالغ فيه بالناس وآرائهم ونظراتهم ورضاهم، كل هذا على حساب (نفسي)، ومن تلك الأسباب باختصار: غريزة الأنس -وهي الأصل في تسمية الإنسان بهذا الاسم، لأنه يأنس ويُؤنس به- وهي أمر فطري إلا إنها كغيرها من الغرائز بحاجة إلى تزكية، وتوجيه الآباء والأمهات أطفالَهم لإرضاء الآخرين عن طريق الشكل أو أداء مهارة معينة أو لباس معين، ثم توجيه الآباء والأمهات (أيضًا) أطفالهم للتنافس مع الآخرين في العائلة والحي والمدرسة -وهي من أكثر ميادين التنافس، وتكون منافسة رقمية فقط-، ويشارك غالب المجتمع الآباء والأمهات في ترسيخ تلك (المنافسات) المذكورة سابقًا، ويضاف إلى هذا الجهل التربوي في تربية الأطفال على بعض المفاهيم مثل: التعاون، والتسامح، والإيثار، والطيبة، والشخصية الاجتماعية.

ثم الجهل التربوي في تعليم الأطفال وتربيتهم وتدريبهم على الوضوح النفسي، وحرية التعبير، وضرورة الصدق في التعبير عن النفس. كل هذه الأسباب -وما يتفرع منها وينتج عنها- تؤدي بي إلى الانشغال بالآخر على حساب النفس.

ومن هنا، سأتوهم أنني في قصر كبير، بابه مُشرَع معظم اليوم والليلة، يدخل منه (الضيوف) بلا حصر أو حد، ويملؤون ردهات القصر وغرفه، وأنا بين هؤلاء وهؤلاء لا يشغلني إلا أن أقوم عليهم وأن (أحسن) ضيافتهم وأن لا يجدوا مني إلا ما يرتاحون له ويمتدحونه، فأعتني بألا أقول إلا ما يريدون، وألا أريهم إلا ما يحبون، وألا أقدم لهم إلا ما يشتهون، وألا أمارس إلا ما يقبلون، المهم أن أبقى في شغل مع الآخرين، مهما كانت (خدمتهم وضيافتهم) صعبة أو مجهدة أو حتى (غير عقلية أو غير منطقية)!

وفي غمرة هذا الانشغال اليومي، أنسى أو أتناسى ذلك الكائن المسمى بـ(النفس) ، فلا يبقى لي إلا أن ألقي بنفسي -أو بجزء منها وهو الجزء الخفي والأهم: الجزء الروحي- في السرداب (أو القبو)، فترة من الزمان، حتى لا أكاد أعرف عنها شيئًا، ولا أكاد أستجيب لها إلا إذا صرخت بأعلى صوتها لحاجة شديدة للماء أو للغذاء أو لقضاء الحاجة أو لغير ذلك، ثم لا ألبث أن أعيدها قسرًا إلى السرداب؛ ثم أمضي في حياتي اليومية، لأنغمس في تلبية حاجات الجسد والعيش مع الآخرين فقط، بعيدًا عن نفسي.

أما نفسي، فهي مسجونة في السرداب، لا سبيل لها إلى الحرية، فلا هي تطالب بحقوقها، ولا أنا أسمع لها صوتًا، وإذا سمعته ربما (خنقته) بيدي! ممنوعة من الخروج إلى (ساحة البيت)، لا هي تملك أن يراها الناس، ولا هي تتكلم في حضورهم، ولا هي تصرّح برغباتها في وجودهم، ولا هي تحيا ما تعتقده إذا ما خالفهم.

وهكذا أعيش يومي وليلتي، في البيت وفي الشارع وفي المسجد وفي المدرسة وفي الجامعة وفي النوادي العلمية والعملية والرياضية والاجتماعية والمهنية! أعيش عالة على هذه الحياة، لست أحيا ما خلقت من أجله، ولست أشعر بالطمأنينة أو بالسعادة أو بالرضا! كل هذا، من أجلهم هم، من أجل الآخرين، هكذا تربيت، وهكذا (أعيش)!

وهنا تظهر على السطح أسئلة كثيرة، منها:
• ما الذي أعرفه أو لا أعرفه عن النفس؟!
• ما الذي أعرفه عمّا لنفسي من حقوق؟!
• ما هي طبيعة العلاقة السويّة مع النفس؟!
• لماذا يمكن أن تتدهور العلاقة بيني وبين نفسي؟!
• كيف يمكن أن تصل الأمور إلى هذا الدرك؟!
• كيف لي أن أشعر بالطمأنينة أو السعادة أو الرضا وأنا في حالة من الغربة عن نفسي؟!
• كيف لي إذا كانت هذه حالتي أن أكون سببًا في العبادة أو الخلافة أو إعمار الأرض؟!

وعودة إلى قصة (النفس والسرداب):
هكذا، تمرّ لحظات عمري وأنا في غفلة شديدة عن النفس وعن حاجاتها (الطبيعية)! وحينها تسير الأمور على النحو التالي:
• انشغال عن النفس وحاجاتها (الطبيعية).
• تدهور حال النفس (في سردابها) دون إدراك مني، حتى تبدأ بإطلاق نداءات استغاثة طلبًا للنجدة والعون والإنقاذ.

• زيادة في الانشغال عن النفس مع شيء من الحيل الدفاعية، ولعل أبرزها هنا: المخادعة (أو التجاهل والإنكار). فيكون الشغل الشاغل: الناس، المهنة، الهاتف الجوال أو الخليوي، التقنية الإعلامية (التلفزيون)، مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، مراكز تحفيظ القرآن، الدروس والمحاضرات العامة، الدورات التدريبية، العمل الخيري، وغيرها.

• زيادة في تدهور حالة النفس حتى تظهر أعراض ليس لها سبب عقلي أو منطقي ظاهر، مثل: ضيق الصدر، أو خوف من أمر غير اعتيادي ولا منطقي، أو تحول سالب في الرغبة أو الاستمتاع في الحياة وأنشطتها المتنوعة، وغير ذلك من أعراض. وربما عبر البعض عن هذه الأعراض بكلمات مثل: أريد أن أبكي ولا أعرف لماذا! لماذا لا أشعر بالسعادة مع تحقيقي لإنجازات كثيرة؟!

• شعور عارم بـ: عدم العلم أو الجهل بالسبب الحقيقي وراء ما أنا فيه (وهو النفس حبيسة السرداب)، ويظهر هذا عادة في تكرار عبارة: "لا أعرف!" وهنا، تبدأ سلسلة مما نعرفه بـ: الحيل الدفاعية.
• زيادة في الانشغال عن النفس مع شيء من تنويع وسائل (الهروب) منها، والصبر والمصابرة والمكابرة على (وجعي)!

• تكرر ظهور الأعراض التي ليس لها سبب ظاهر!
• وصول صوت النفس (من السرداب) إلى بعض من يجلسون في ردهات القصر وغرفه، حتى إذا ما سألني بعضهم عن مصدر الصوت تهربت من الإجابة وخادعتهم بأن الصوت ليس من (نفسي) وإنما من (نفس مجاورة)!
• تكرر ظهور الأعراض التي ليس لها سبب ظاهر، حتى يبلغ الأمر حدًّا (مخيفًا)، مثل: سلوك مفاجئ وغير معتاد، انهيار عصبي، محاولة انتحار، أو غيرها من أعراض.

• محاولة السعي لمعرفة السبب، لكن مع خوف المواجهة وضعف الإرادة للإصلاح. ويظهر هذا في المراوغة الشديدة عندما يحاول البعض أن يوجهوني نحو النفس، وقد يصل الأمر إلى محاربتي لهم وانقلابي عليهم. ويظهر هذا في تهربي من الجلوس مع كل من يذكرني بنفسي أو بتقصيري في حقها أو بضرورة مواجهتها وتزكيتها، ومن أبرز هؤلاء: أهل البيت: الأب، الأم، الزوج، الزوجة، الأبناء، الأصدقاء المقربون الصادقون الصرحاء، أهل الاختصاص النفسي، وغيرهم.

• التساهل في إلقاء اللوم على أي شيء، حتى ولو كانت أشياء (مقدسة) مثل: الله، القضاء والقدر، العدل الإلهي، وغيرها؛ المهم أن يبقى اللوم خارج حدود النفس.

• إذا اقتربت مساعي البحث من حدود النفس، تحولتُ من الضعف إلى القوة، ومن الطيبة إلى الشراسة، ومن الدفاع إلى الهجوم، حيث تظهر كل أنواع الحيل وأسلحة الدفاع (الذاتية)، ولعل أبرزها: محاولة هدم وإسقاط كل شيء.

• إذا ما وصلتُ إلى حدود النفس، أي: إذا ما اقتربت من السرداب، وإذا ما تجاوزت الحيل الدفاعية وأسلحتها، تقابلني تلك الرائحة الكريهة الصادرة من (النفس)، مما يدفعني لمراجعة التفكير في (فتح الباب) و(مواجهة النفس). وهذه المرحلة ليست سهلة ولا قصيرة -حتى وإن ظهر الأمر هكذا في الكتابة عنها- بل قد أستغرق فيها أيامًا وليالي وأسابيع وشهورًا!

• فإذا صدقت النية والعزم والتوجه، وإذا تمكنت من التقدم نحو باب السرداب وفتحه -وهو ما سنعبر عنه لاحقًا باسم: قراءة النفس- تظهر المفاجأة حين أكتشف أنني أمام كائن غريب عني، وكأنني أراه لأول مرة، هنا يظهر لي أنني لا أعرف نفسي، وهنا يظهر السبب الحقيقي الذي كنت أجهله (أو أتجاهله)، والذي هو وراء ما أنا فيه: الجهل بالنفس.

• هنا وداخل هذا السرداب -الذي أصبح أشبه ما يكون بـ: الحصن العنيد- وبعد أن انتهينا من حرب ضروس لنصل إلى ما وصلنا إليه، تبدأ الحرب الحقيقية، وتبدأ المواجهة الأصعب، المواجهة مع النفس.

• هنا تخيم حالة من الهدوء الذي يعبر عنه البعض بأسئلة مثل: ما الذي ينبغي عليّ أن أفعله إذا جلست وحدي؟ ماذا أقول لنفسي إذا خلوت بها؟ لماذا أشعر فجأة بأن الكلمات تتفلت من ذهني ويمسكها لساني؟ لماذا أشعر فجأة أن كل ما كنت أعده لهذه الجلسة من كلمات اختفى وغاب؟ هل من الطبيعي أن أشعر برغبة في الهرب من هذه المواجهة؟ وغيرها من أسئلة تدور في نفس الفلك.

• وهذا الهدوء هدوء ذو حدّين: فإما أن يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة، عاصفة الهجوم الشرس وغير المسبوق على الآخر أو على نفسي نتيجة الخوف الشديد منها أو الحنق عليها -هذا الخوف سببه جهلي بها والذعر مما آلت إليه حالتها في السرداب، كما أن الحنق سببه التساهل في تحميل النفس الذنب فيما دنت إليه- فأبدأ بهدم كل ما حولي داخل هذا الحصن، وإما أن يكون الهدوء الذي يسبق حالة من الحزن والندم والبكاء -لنفس الأسباب التي دفعتني للخوف والحنق، ولكن تلك الأسباب تدفعني هنا للشعور بالذنب تجاه نفسي، وهي حالة طبيعية وسويّة-.

• وهنا قد أعود فأرتدّ على عقبيّ، وأنتكس مرة أخرى، فأختار إحدى:
الأولى: إما أن (أنتكس) بأن أهرب وأعود مرة أخرى إلى العيش مع الآخرين وإلى حبس نفسي في السرداب، ولكن هذه المرة، على علم مني ووعي، إلا إنني -وبعد فترة من الزمن- قد أغيب في العالم الخارجي، ويغيب معي علمي ووعيي، فيستحيلان نوعًا من الوهم الذي يصحبه توهم آخر يبدأ بوعي وينتهي بحالة قريبة من اللاوعي، وهو شعوري بأنه (لا مشكلة هناك) أو (أنا أفضل من غيري)! ومن صور هذا التوهم، الهرب إلى عالم الوهم والهلوسة، فهذا يهرب من مواجهة نفسه ليقول أنه (المهدي المنتظر) أو (المسيح)، وتلك تهرب من مواجهة نفسها لتقول بأنها (مسكونة بالجن) أو (مصابة بالعين أو الحسد) أو (أنا مريم العذراء)، وغير ذلك من أنواع الوهم الكثيرة!

والثانية: أو أن (أنتكس) بأن أنضم إلى نفسي في سردابها، وأكون أنا الآخر حبيسًا في هذا العالم، أعيش ولا أحيا، جسدًا بلا روح فاعلة، وهذا ضرب من ضروب الاكتئاب، فأبقى حبيس السرداب باختياري هذه المرة.

• أما إذا اخترت الهدوء، فيبقى لي حينها أن أجلس إلى نفسي، وأن أخلو بها، وأن أستمع لها، وأنصت إليها، أي: أن أقرأها. وهذه القراءة ليست سهلة أو يسيرة، بل هي رحلة طويلة ربما تخللتها كثير من المحطات التي قد أجد فيها ما لا يسرني.

• فإذا ما قرأت نفسي، بقي لي حينها أن أقبلها كما هي، بعيوبها وبعلاّتها وبسوءاتها؛ قبولًا لا يعني الموافقة على ما هي فيه أو ما آلت إليه، إنما هو قبول يسبق التعارف والتصالح والتوافق، وهذا أقل ما تستحقه نفسي مني جزاء إهمالها.

• فإذا ما قبلت نفسي، أصبح من السهل عليّ أن أقدّرها، وأن أصلح من حالتها، وأن أطهّرها يعني: أن أزكّيها.
• وتحصل التزكية بأمرين متتابعين: الأول: التخلية (أو التفريغ)، والثاني: التحلية (أو التزويد والشحن).

• أما التخلية، فتكون بالعمل على إزالة كل ما في النفس من شوائب وعيوب ومساوئ، سواء كانت متعلقة بعلاقة النفس والله، أو النفس وذاتها، أو النفس والآخرين، وسواء كانت متعلقة بالماضي أو بالحاضر أو حتى بالمستقبل أو ما يعرّفه العلماء على أنه: أمراض القلوب (أو النفوس)، مثل: الجهل، والشبهات، واليأس، والقنوط، والكبر، والكره، والغيظ، والحسد، إلخ..، وبهذه التخلية تصبح النفس مؤهلة بما فيه الكفاية ليتم تحليتها (أو تزويدها) بما يصلحها ويزكّيها.

• وأما التحلية، فتكون بتزويد النفس بما يصلحها جسدًا وروحًا، ويكون هذا بأمرين: العلم، والعمل، وأعني بالعلم: العلم بـ: من أنا ولم أنا.

وأعني بالعمل: الانشغال فورًا بتحقيق ما أعلمه في حياتي اليومية.
وهنا وفقط هنا، يمكن لي أن أكون سببًا في تحقيق العبادة، العبودية والخلافة وإعمار الأرض.


عبد الرحمن ذاكر الهاشمي

المصدر: موقع فن الحياة