تشديدات القرآن - يهدي للحق أو إلى الحق؟!

منذ 2014-10-04

من المعلوم أن الكلمات والحروف التي في القرآن، هي لغة عربية ولا شك، ولكنه – وهو الأهم- كلام الله تعالى، وقد ثبت أن الكلمة في القرآن قد تحمل أوسع من دلالتها اللغوية البحتة، وذلك من خلال النظرة الروحية أو الإيمانية أو الفقهية الشرعية! لأنها مقصود الله سبحانه أو مطلوبه من عباده، كما في كلمات: الصلاة، والحج، والزكاة، وغيرها من الأسماء بين اللغة والشرع. فلا بد من إعمال فقه الفقهاء الشرعيين اعتمادًا على فقه الأُدَباء اللغويين، حتى لا نخرج عن لغة العرب. وسترى فيها عجبًا عُجابًا من المعانيَ اللطيفة والحِكَم المُنِيفة، التي نذكرها إن شاء الله تِباعًا ولكلٍّ من الحرفين" إلى" و "اللام"، معاني عديدة

اللطيفة الخامسة: في الفرق بين الحرفَين (لـِـ) و (إلى)!
ما زلنا مع فوائد ولطائف يَهَدِّي في قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِـــلْحَقِّ}الآية[يونس: 35].
وتلاحظ التعدية بحرف الجر  {إلـــى}، {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}، والتعدية بحرف الجر اللام  {لِـــ }: {يَهْدِي لِـــلْحَقِّ} ! للفعل نفسه {يهدي} ، فهل لذلك من دلالة؟!

في الحقيقة استوقفني مرارًا هذا الجمعُ بين اللغتين، وتدبَّرتُهُ فلم أقنع بما خطر لي من دلالة، ولم أجد في التفاسير التي نظرت فيها ما يروي غليلي، كما أني لجأت أيضًا إلى اللغة العربية لمراجعة معاني الحروف؛ فوجدت اللنحويين غالبًا ما يقتصرون على المعنى الذَّاتي للحرف، ويقفون غالبًا عند المساواة بين معاني الأفعال حين تختلف حروف تعديتها المتشابهة أو المشتركة في المعنى، قُصاراهم بلاغة الأدباء والعرب العرباء، غير متجاوزينَها إلى بلاغة رب الأرض والسماء!

ومن المعلوم أن الكلمات والحروف التي في القرآن، هي لغة عربية ولا شك، ولكنه – وهو الأهم- هي كلام الله تعالى، وقد ثبت أن الكلمة في القرآن قد تحمل أوسع من دلالتها اللغوية البحتة، وذلك من خلال النظرة الروحية أو الإيمانية أو الفقهية الشرعية! لأنها مقصود الله سبحانه أو مطلوبه من عباده، كما في كلمات: الصلاة، والحج، والزكاة، وغيرها من الأسماء بين اللغة والشرع.

وقد ظَلَلْتُ هكذا في تأمّل الفرق بين الحرفين حتى رزقني الله التالي : "الفعل المتعدي بالحروف المتعددة لا بد أن يكون له مع كل حرف معنىً زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو: رغبت فيه وعنه، وعدلت إليه وعنه، وملت إليه وعنه، وسعيت إليه وبه، وإن تقاربت معاني الأدوات عَسُر الفرق نحو: قصدت إليه وله، وهديت إلى كذا ولكذا، فالنحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر. وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال وهذه طريقة إمام الصناعة سيبويه)(1).

فلا بد من إعمال فقه الفقهاء الشرعيين اعتمادًا على فقه الأُدَباء اللغويين، حتى لا نخرج على لغة العرب.
ولكلٍّ من الحرفين" إلى" و "اللام"، معاني عديدة، نقتصر على بعضها هنا:
من معاني الحرف:
من معاني الحرف " إلــى":
تفيد (إلى): انتهاء الغاية، مكانية أو زمانية؛ نحو قوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}[الإسراء:1]؛ ونحو: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة])( 2).

وفي الصحاح: (إلى) : حرف خافض، وهو منتهى لابتداء الغاية، تقول: خرجت من الكوفة إلى مكة، وجائز أن تكون دخلتها وجائز أن تكون بلغتها ولم تدخلها؛ لأن النهاية تشتمل أول الحد وآخره، وإنما تمتنع مجاوزته)(3).

فاستفدنا من هاذين أن الحرف (إلـى) يفيد انتهاء الغاية ويقتضي ابتداءها، فيوجد مجالٌ وبُعدٌ بين طرفي الزمان أو المكان.

أما بلوغ الغاية فإنَّ الحرف "إلى" لانتهاء الغاية يجوز دخول المُغَيَّا إن أريد استيعاب ذلك الشيء، ويجوز أن لا يدخل إن أريد الاتصال بأوله، وهذا معنى قول الثمانينيِّ في شرح اللُّمع: وما قبل من لابتداء الغاية وما بعد إلى يجوز أن يدخلا في الغاية وأن يخرجا منها وأن يدخل أحدهما دون الآخر وكل ذلك متوقف على السماع، وسرت من البصرة إلى الكوفة أي ابتداء السير كان من البصرة وانتهاؤه اتصاله بالكوفة (4).

يعني أن السالك من مكة إلى المدينة، قد يبلغ غايته المدينة وقد لا يبلغها، ومن الجمعة إلى الخميس، فقد يبلغ الخميس وقد لا يبلغ...
ومن معاني حرف اللام:
عدَّد اللغويون للام معاني كثيرة، ونكتفي منها بالقدر الذي نحتاجه هنا، ومنها:
1- الملك: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 189].
2- الاختصاص، وهو شبه التمليك: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:139]، وقال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب:50].
3- التعليل، أي علة الفعل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ومنها (لأجل) التي بمعنى القصد أو الباعث، كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ}[الطلاق: 2]، وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:4]، فقصدك الله، والباعث لك على الفعل أمره ورضاه.
4- انتهاء الغاية(5 )؛ نحو: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد:13]، أي: يسير إلى وقت معلوم لا يجاوزه، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة. {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يـس:38]، أي: إلى مستقر لها، إلى وقت واحد لها لا تعدوه، وهو انتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا. وهذا معنى من معاني (إلى).
5- بمعنى ( إلى): {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5]، فاللام هنا بمعنى إلى، كقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم:10]. أي تَقَرُّبًا إلى الله، خالِصاً لوجهه، ولحق الله ولسبب أمره، حسبة لله. وتعاملا مباشراً معه. لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم، ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، ولا تعاملاً مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية. ولكن شهادة لله، وتعاملاً مع الله. وتجرداً من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار وكل غرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر( 6).

لم أخرج عن الموضوع، ولم استطرد لغير مُراد، وإنما نريد أن نجيب على السؤال التالي:
أيُّ هذه المعاني يحتمله حرف اللام في قوله تعالى "يهـدي للحق"؟ وهل يمكن أن يتناول حرف اللام هنا أكثر من معنى من بين معانيه العديدة؟

غالبُ المفسِّرين يشيرون إلى أنهما لغتان بمعنى واحد، معتمدين على تعاقب الحروف في المعنى، وأن {للحق} بمعنى {إلى الحق} ، إلا قليلٌ منهم يشير إشارات عابرة لبعض هذه المعاني، ولكن الله ذو الحكمة البالغة يودع كلامه أسرارًا عظيمة، يفتح بها على من يشاء من عباده، لا يخرج ذلك عن البلاغة في استعمال لغة العرب، ومذهب إمامها سيبويه أن "الفعل المتعدي بالحروف المتعددة لا بد أن يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر"، وهذا الذي نحن فيه من هذا القبيل.

وفي اللطائف القادمة نُنبِّه على أربع تنبيهات، ترى فيها عجبًا عُجابًا من المعنيَ اللطيفة والحِكَم المُنِيفة، وسبحان الواحد الأحد؛ فاللهم اشرح لي صدري ويسِّر ليَ أمري واحلل قعدة من لساني؛ يفقهوا قولي.

ونُذَكِّر بأن  هذه اللطائف تابعة لتشديدة الأصل:لطائف يَهَدِّي.

واللطيفة الأولى: الأوثان الحيَّة والأصنام العاقلة.

واللطيفة الثانية: أصنام بلا أجسام.

واللطيفة الثالثة: أوثان آخر الزمان!

واللطيفة الرابعة: أصنام العبادة وأوثان الاتباع

وهذه اللطيفة الخامسة في عجائب حرفين!

ويتبع إن شاء الله بنفصيلها في تنبيهات

-------------------------
1 - أبو البقاء، أيوب الكفوي، الحنفي (المتوفى: 1094هـ)، الكليات(معجم في المصطلحات والفروق اللغوية)، تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص 1002.
2 - جمال الدين، ابن هشام (المتوفى: 761هـ)، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، 3/ 44.
3 - زين الدين، الرازي (المتوفى: 666هـ)، مختار الصحاح، ص 21.
4 - أبو العباس، الحموي (المتوفى: نحو 770هـ), المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، 2/ 581.
5 - ابن هشام، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، 3/ 28.
6 - انظر التفاسير: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 18/ 159، البيضاوي 3 /497، أبو حيان الأندلسي (المتوفى: 745هـ)، البحر المحيط في التفسير، 10/ 198، أبو البركات، النسفي (المتوفى: 710هـ)، مدارك التنزيل وحقائق التأويل، 3/ 497، سيد قطب، في ظلال القرآن، 2 /776.
 

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

المقال السابق
أصنام العبادة وأوثان الاتباع
المقال التالي
اللفتة الأولى: في اليسر والتحقق أو المشقة والمخاطرة