بين الإسفنجة والزجاجة!!

منذ 2014-10-07

لا تجعل قلبَك للإيرادات والشبهات مثلَ الإسفنجة، فيتشرّبها فلا ينضح إلا بها! ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها،

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

القلب مستودع سر الإنسان، وصلاحه ونوره وهدايته! فإنْ صلح قلبه صلحت باقي الجوارح، وإن انتكس عمت النكسة في الباقين! وحتى السعادة والحزن، والقلق والسرور، مصدر يقظتها، أول ما تنطلق وتبرز، تنطلق وتبرز من القلب والوجدان، ثم تسري في باقي الأعضاء!

يجمل القلب ويطيب فتطيب سائر الأعضاء! وكما قيل:  

والذي نفسه بغير جمالٍ *** لا يرى في الوجود شيئًا جميلا

وفي الصحيحين: « ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». فحينما يتعبأ القلب بالإيمان وخصال الخير والحب، يشرق على الحياة مطمئنًا هادئًا، ولا تعصف به الشبهات، أو تناله الشهوات، بشرط أن لا يشغل نفسه بها أو بتأملها، كما قال الإمام الحكيم ابن تيمية، رحمه الله، ناصحًا تلميذه الفذ شمس الدين ابن القيم رحمه الله بعد أن أورد إيرادات أكثر منها: "لا تجعل قلبَك للإيرادات والشبهات مثلَ الإسفنجة، فيتشرّبها فلا ينضح إلا بها! ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربتَ قلبك كل شبهة، تمر عليها صار مقرًا للشبهات" نقل ذلك ابن القيم في (مفتاح دار السعادة: ج1ص140).

وأفاد ابن القيم رحمه الله أنه انتفع بها انتفاعًا عظيمًا، لا سيما في فحص الأفكار، والشبهات العارضة، وذلك كان في زمنٍ مصادر المعرفة عندهم متصلة بالكتب والمساجد والأسفار! فكيف الآن، والمعلومات ثائرة، والفضائيات غازية، والشبه مروجة، والتعاسات ملمعة، وباتت الأفكار الدخيلة، والمشبهات العليلة، محمولة في جوالك، وتسامرك أكثر الأوقات، فالواجب أخذ الحيطة والحذر، والتعامل معها (بالقلوب الزجاجية)، كما يقول شيخ الإسلام، بحيث يعريها الصفاء، وتدفعها الصلابة، فتذهب ذهابًا لا يبقي أثرًا، ولا يترك همسًا، مع ما هنالك من حسن تدين، وصدق وإخبات!

بخلاف القلب الإسفنجي، الذي يتشرب الشبهات، كتشرب الإسفنج للماء، فلا يضخ إلا بها، ولا يتكلم إلا والشر معه، والتلبيس حداؤه ورنينه! فلا ينفعه كثرة اطلاع، ولا سعة محفوظات، لأن الشبه خطافة، والأفكار مغرية، وكم من شخص أُخذ من هذا الجانب، حيث أوغلوا في الشبهات تحليلا وتعليلا، ولم يتعاملوا معها بصفاء، كبعض أرباب الكلام، وفلاسفة التعليل والمجادلات، وعقلانيين طغوا في قداسة العقول، إلى أن باتوا حيرى، من جراء ما تورطوا فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ولذا ننصح أبناءنا الصغار، ومن لديهم النبوغ العلمي، والنهم المعرفي، أن لا يفتحوا للنفس عليهم مداخل، ولا يجعلوا للشيطان عليهم حبائل، وأن يتعاملوا بالقلب الزجاجي، الذي يفحص ويصد بقوة وصفاء، ويمرر تلك الشبه إلى الخارج!

لا سيما وقد أضحينا في عصر تفسير الشبهات، وخداع الفتيان والفتيات بها! وأن ذلك من أسباب الوعي وبلوغ اليقين، فيتلقفها الشباب مع هشاشة في العقيدة، وضعف في السلوك، فيقع في الحرج، ويبتلى بالتشويش!

ومن المؤسف أن بعض الشرعيين يزين لأولئك الفتية مطالعة كتب الفكر والفلسفة، بدعوى تحقيق الإيمان ونيل الجادة في المنهج! وقد خشي صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه لما رأى في يديه قطعة من التوراة، وقال له: «أمتهوكون يا بن الخطاب؟! والله لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي» والتهوك: التشكك!

ولا نوصي بذلك، لإفضائه إلى الشك والتشكك، ومن ثم الحيرة! بل ندعو إلى ترسيخ الاعتقاد، وحفظ النصوص، والتباعد عن تلكم الكتب والتيارات، حتى يستقيم النهج، ويصح التدين، وتحاز الثقافة الأصيلة!

وعندئذ لا بأس من الاطلاع، للكشف والنقد! لأنه لا يصلح لها كل أحد، وقد اصطلى بحرها أقوام، وضجّوا من بلوائها، ولا زالت محفوظة تلك التراجعات، والله الموفق.

 

د. حمزة بن فايع الفتحي

1435/11/19