زاد المعاد - هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه (3)

منذ 2014-12-13

أن الجمعة عند الصحابة صلاةٌ مستقِلَة بنفسها غير الظهر.

وقد ظن بعضُهم أن الجمعة لما كانت بدلًا عن الظهر-وقد ذكر في الحديث السنة قبل الظهر وبعدها- دلَّ على أن الجمعة كذلك، وإنما قال: "وكان لا يُصلي بعد الجمعة حتى ينصرِفَ" بيانًا لموضع صلاة السنة بعد الجمعة، وأنه بعد الانصراف، وهذا الظن غلط منه، لأن البخاري قد ذكر في باب التطوع بعد المكتوبة حديثَ ابن عمر رضي الله عنه: صليتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدتينِ قبل الظهر، وسجدتين بعدَ الظهر، وسجدتين بعدَ المغرب، وسجدتينِ بعد العشاء، وسجدتينِ بعد الجمعة. فهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاةٌ مستقِلَة بنفسها غير الظهر، وإلا لم يحتج إلى ذِكرها لِدخولها تحتَ اسم الظهر، فلما لم يذكر لها سنةً إلا بعدها، عُلِمَ أنه لا سنة لها قبلها.

ومنهم من احتج بما رواه ابن ماجه في (سننه) عن أبي هريرة وجابر، قال: جاء سُلَيك الغَطفاني ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطبُ فقال له: «أَصَلَّيْتَ ركْعَتَيْن قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟» قال: لا. قال: «فَصلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّز فيهما» (وإسناده ثقات).

قال أبو البركات ابن تيمية: وقوله: «قبل أن تجيء» يدل عن أن هاتين الركعتين سنة الجمعة، وليست تحية المسجد. قال: شيخنا حفيدُه أبو العباس: وهذا غلط، والحديث المعروف في (الصحيحين) عن جابر، قال: دخل رجال يومَ الجمعة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فقال «أَصلَّيْتَ» قال: لا. قال: «فَصّل رَكْعَتَيْن». وقال: «إذا جاء أَحَدُكُم الجُمُعَةَ والإِمَامُ يَخْطُبُ، فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيتَجَوَّزْ فيهما». فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وأفراد ابن ماجه في الغالب غيرُ صحيحة، هذا معنى كلامه.

وقال شيخنا أبو الحجَّاج الحافظ المزي: هذا تصحيف من الرواة، إنما هو "أصليتَ قبل أن تجلس" فغلط فيه الناسخُ. وقال: وكتابُ ابنِ ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما، واعتَنَوْا بضبطهما وتصحيحهما، قال: ولذلك وقع فيه أغلاطٌ وتصحيف.

قلت: ويدل على صحة هذا أن الذين اعتَنَوْا بضبط سنن الصلاة قبلها وبعدها، وصنفوا في ذلك من أهل الأحكام والسنن وغيرها، لم يذكر واحدٌ منهم هذا الحديثَ في سنة الجمعة قبلها، وإنما ذكروه في استحباب فعل تحية المسجد والإِمام على المنبر، واحتجوا به على من منع مِن فعلها في هذه الحال، فلو كانت هي سنةَ الجمعة، لكان ذكرها هناك، والترجمةُ عليها، وحفظُها، وشهرتُها أولى من تحية المسجد. ويدل عليه أيضًا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يأمر بهاتين الركعتين إلا الداخل لأجل أنها تحيةُ المسجد. ولو كانت سنة الجمعة، لأمر بها القاعدين أيضًا، ولم يخص بها الداخل وحده.

ومنهم من احتج بما رواه أبو داود في (سننه)، قال: حدثنا مسدَّد، قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يُطيل الصلاة قبل الجمعة، ويُصلي بعدها ركعتين في بيته، وحدث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك. وهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنةً قبلها، وإنما أراد بقوله: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعل ذلك: أنه كان يُصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يُصليهما في المسجد، وهذا هو الأفضل فيهما، كما ثبت في (الصحيحين) عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته.

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

المقال السابق
هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه (2)
المقال التالي
هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه (4)