التميز
وليس القصد مجرد التميز ولو بالشعارات الجوفاء.. ولا التميز تفاخراً وتفاضلاً أو تعصُّباً أو تحزُّباً.. لا ثُم لا.. وإنما يقصد به التميز المشروع الذي يجعل من تميزك دعوةً إلى دعوتك، حتى يعرفها طالبُها فيأتيها، وينبغي أن يكون تميزك عنواناً لمضمون دعوتك، وينبغي أن تكون (جامعة مانعة) ما أمكنك ذلك، كعناوين ابن القيم رحمه الله تعالى كما يقال.
إن الدول والأحزاب والأندية الرياضية وأنواع التجمعات تتخذ لها أعلاماً وألواناً من أجل التميز.. من أجل أن تقول هاأنذا هنا فاعرفوني من أنا!.. أليس أصحاب الدعوات بأولى بأن يتميزوا تمييزا لدعوتهم، وإظهارا لدينهم؟!..
وليس القصد مجرد التميز ولو بالشعارات الجوفاء.. ولا التميز تفاخراً وتفاضلاً أو تعصُّباً أو تحزُّباً.. لا ثُم لا.. وإنما يقصد به التميز المشروع الذي يجعل من تميزك دعوةً إلى دعوتك، حتى يعرفها طالبُها فيأتيها، وينبغي أن يكون تميزك عنواناً لمضمون دعوتك، وينبغي أن تكون (جامعة مانعة) ما أمكنك ذلك، كعناوين ابن القيم رحمه الله تعالى كما يقال.
ونؤكد على أنه ليس المطلوب التميز على عموم المسلمين، فإنه قد يكون من الشهرة المنهي عنها، أو من التسميع والمراءاة.. ولا التميز على الجماعات الأخرى.. لأن الأصل في المسلمين الوحدة في كل اتجاه: وحدة ووحدانية الإله المعبود، ووحدة الرسالة المتَّبَعة.. ووحدة الميزة كذلك، بل أتباع الأنبياء كلهم كذلك، حتى أن رسول الوحي من الملائكة واحد لهم جميعاً، هو جبريل عليه السلام، وفي ذلك عبرة..
إن المقصود التميز عن الأحزاب الهدامة والأفكار الهدامة وحتى المتميعة التي لا شارة لها. وما أكثر صور التميز ومجالاته!. فمن طريقة تسريح الشعر إلى قبلة الصلاة، وعلى رأسها التميز في الخلق والسلوك.
وتأمّل قولَ الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:143] يا الله! أكبر شعار للمسلمين ظاهر للعيان، وحدة القبلة والصلاة، مع ذلك صلى المسلمون إلى القبلتين في ثلاث حالات، وانظر كيف عللها الله سبحانه؟ إن حكمة هذا التراوح بين القبلتين هي: {لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} ليتميز أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، ممن ينافقون في اتباعه! فلنعلم من يتبع ممن ينقلب.. أما حقيقة العبادة: {وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115] (في الظلال: [1/125-129] كلام طيب حول هذه الآية وهذه المسألة)، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي النافلة حيث توجهت به راحلته.
إن التميز يشمل فيما يشمل، التميز الخلقي، الذي يدل على ما وراءه من دين عظيم ومنهج قويم، وإذا عرفت كيف اكتشفت قريشٌ إسلام الصحابة عرفت أن التميز يبدأ من الداخل ثم ينبعث إلى الخارج. فمما ساعد قريشاً على اكتشاف المسلمين الأوائل في عهد التخفي والسرية والمرحلة الأرقمية، هو تميزهم في السمت والخلق والاهتمام.
إذا لاحظ أصحاب الدعوات هذا، وأدركوا ضرورة ذلك وعزموا على اختياره، فلن يجدوا أفضل ولا أصدق تمييزًا إلا ما ميَّزهم به الله سبحانه وتعالى. في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة.
أيعجز المسلمون أن يتميَّزوا بأخلاق تخصهم وشعارات تخصهم ومصطلحات تخصهم.. كل ذلك ليعبروا بها عن أفكارٍ ومبادئَ ومناهجَ تخصهم كذلك؟!..
ولعله يكفي أن نعيد المثال السابق هنا أيضاً -وحتى لا نخرج عما سمعته آذاننا- فالتعبير بالشورى بدل الديمقراطية -ولو تساوتا- وضمن هذا يدخل الاعتزاز بما له صلة بالإسلام شكلاً ومضموناً، وفي الساحة شيء غير قليل من هذا القبيل.. فهذا يستحي بالسواك.. ويقول تُغني عنه الفرشاة! .. وذاك يستحيي أو يخجل من الشورى ويقول تعوِّضها الديمقراطية!، وذلك يتكلم عن الحدود على استحياء يحاذر الهمجية!!.. وآخر يتحايل على الربا، ويحلله بطريقة أو بأخرى.. وغيره يقرر أن المعركة بيننا وبين يهود هي معركة أرض لا علاقة لها بعقيدة!!.. وغيره يدافع عن الإسلام فيجاهد (الجهاد) حتى يجعله دفاعياً فقط!!.. وآخر يدعو إلى تقارب الأديان لنتعاون... ويعذر... هنا أيضاً وليس يدعوا حتى إلى تحاورِها!
وكلها دعوات -أو دعاوى!- كانت ممكنة الوقوع في وقت النبي صلى الله عليه وسلم ولا تُكلِّفه كلَّ ما كابد وتكبَّد.. فما له لم يفعلها؟!. مع أنه صلى الله عليه وسلم من صفته اليسر ومن منهجه اختيار الأيسر ما لم يكن إثماً، كما قالت عائشة رضي الله عنها: "ما خُير رسول صلى الله عليه وسلم بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه" (متفق عليه). إن كونه لم يختر من هذه الطرق شيئاً على ما قد يبدو من يسر بعضها وجدوى أخرى وأأمن ثالثة.. إنما لم يفعل لأنها إن لم يكن فيها إثمٌ فإنها ليست أيسر مما اختار، ولو بدت في ظاهرها غير ذلك.. مثلها مثلما في ظاهر الحدود من مشقة أو ضرر.. لكن ما تنطوي عليه من الفوائد يفوق ذلك..
بل يقال للذي يريد الأيسر -وكلنا ذلكم- أن ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم هو الأيسر رغم ما كان ظاهره من محن ومشقات وأتعاب وفقد الأصحاب... رغم أنهم: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ} [البقرة من الآية:214] ورغم أنهم زاغت أبصارهم وزلزلوا زلزالاً شديداً وبلغت قلوبُهم حناجرَهم : {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10-11]... ومع كل هذا فهو الأيسر.. ذلك أن الله تعالى قال له صلى الله عليه وسلم: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ} [الأعلى:8] واليسرى لم تُقَيَّد بِقَيْدٍ، فهي اليسرى في القول والعمل والاعتقاد والحركة والمنهج... فكل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أي مجال من المجالات هو أيسر قولاً مهما بدا في ظاهره غير ذلك.. وكل فعل فعله أو منهج انتهجه.. أو طريقة سلكها.. كل ذلك هو الأيسر مهما بدا في ظاهره غير ذلك.. لأنه مُيَسَّرٌ لليسرى.. قول الله تعالى ولا تبديل لقوله سبحانه عز وجل.
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: