الهمة العالية - (8) معوقات الهمة العالية (مظاهر دنو الهمة 4)

منذ 2014-10-29

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إليه فإذا طلب رزقه من الله صار عبدًا لله، فقيرًا إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أُبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح، والسنن والمسانيد"


21- استجداء الناس ومسألتهم:

فمن مظاهر دنو الهمة قعود الإنسان عن العمل، وتركه السعي في الأرض، والمشي في مناكبها، كي يتعفف عن مسألة الناس، وإراقة ماء وجهه أمامهم.

فسؤال الناس واستجداؤهم دليل على القحة، وسقوط الهمة، وقلة المروءة، خصوصًا إذا كان السائل قادرًا على العمل والكسب، أو كان يسأل الناس تكثرًا، أو من غير ضرورة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إليه فإذا طلب رزقه من الله صار عبدًا لله، فقيرًا إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أُبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح، والسنن والمسانيد"[1].

قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم»[2].

هذا وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة عند الحديث عن موقف الإسلام من علو الهمة إن شاء الله تعالى.

22- الكِبر والتعالي:

وهذه الخصلة مذمومة في الشرع، والعقل والفطرة. والمتكبِّر ممقوت عند الله، وعند خلقه.

قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر»، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكِبر بطر الحق وغمط الناس»[3].

هذه هي حقيقة «الكِبر بطر الحق»: يعني دفعه ورده، وغمط الناس: يعني احتقارهم.

فمن مظاهر الكِبر الإعجاب بالنفس، وعدم قبول النقد البناء والنصيحة الهادفة، ومنها أن يرى الإنسان لنفسه حقًا على الله، وفضلًا على الناس[4].

23- الكذب:

فالكذب عمل مرذول، وصفة ذميمة، وهو خصلة من خصال النفاق، وشعبة من شعب الكفر، وهو سبب لنزع الثقة من الكاذب، والنظر إليه بعين الخيانة.

وهو دليل على ضعة النفس، وحقارة الشأن، وسقوط الهمة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتَب عند الله كذّابًا»[5].

وقيل في ذم الكذاب: "ليس لكذوب مرءوة، ولا لضجور رياسة"[6].

وقال بعض الشعراء في ذم الكذب[7]:
وما شيء إذا فكرت فيه *** بأذهب للمروة والجمال     
من الكذب الذي لا خير فيه *** وأبعد بالبهاء من الرجال

ومما يؤسف عليه في هذه الأزمان المتأخرة كثرة الكذب، وقلة الصدق، فما أقل من يصدق في حديثه ومعاملاته، وما أكثر من يكذب في ذلك.

فمن كاذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كاذب في بيعه وشرائه، ومن كاذب لإفساد ذات البين، ومن كاذب لإضحاك السامعين، إلى كاذب على مخالفيه تشفيًا منهم، وتشويهًا لسمعتهم إلى غير ذلك.

ومن الناس من يكذب في المطالبات والخصومات، ومنهم من يكذب للتخلص من المواقف الحرجة، ومنهم من يحذف بعض الحقيقة في نقله، ومنهم من ينقل الأخبار الكاذبة، ومنهم من يكذب للتملق واستدرار العطف، ومنهم من يتوسع في باب المصلحة، ويبالغ في المعاريض فيقع في الكذب المذموم وهكذا[8].

24- قلة الحياء:

فالحياء خلق عظيم، يبعث على فعل الجميل وترك القبيح، فإذا ما عري الإنسان منه، وعطل من التحلي به دنت همته، وسفلت مرتبته، ولم يعد يبالي بما يَصْنَعُ.

هذا ولقلة الحياء مظاهر كثيرة منها المجاهرة بالمعاصي من تدخين في الأماكن العامة، ورفع للاصوات بالغناء، ومن تبرج، وتبذل، وتكشف، وتعري.

ومنها كثرة اللجاج والسباب والشتام، ومنها عقوق الوالدين، والمماطلة بالدَّين، وقلة الأدب مع المعلمين والمربين.

25- الحقد:

فتجد من الناس من يحمل نفسًا مظلمة، وقلبًا أسود، لا يعرف للعفو طريقًا، ولا للصفح سبيلًا، فبمجرد أدنى إساءة تقع في حقه من أحد إخوانه تجده يحقد عليه، ولا يكاد ينسى إساءته مهما تقادم العهد عليها، فتجده يتربص بصاحبه الدوائر، وينتظر منه غرة، لينفذ إليه منها، ويصيبه من خلالها، فيشفي غيظه، ويروي غليله.

وهذا العمل مظهر من مظاهر دنو الهمة، فهو لا يصدر من النبلاء، ولا يليق بالعقلاء.

والحقود لا يرتفع له قدر، ولا تعلو به رتبة.

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العلا من طبعه الغضب


26- مجاراة السفهاء:

فمن الناس من إذا ابتلي بسفيه ساقط لا خلاق له، أخذ يجاريه في قيله وقاله، مما يجعله عُرضةً لسماع ما لا يرضيه من قبيح القول ورديئة، فيصبح بذلك مساويًا للسفيه في سفهه؛ إذ نزل إليه وانحط في مرتبته.

إذا جاريت في خُلقٍ دنيئًا *** فأنت ومن تجاريه سواء[9]

قال الأحنف بن قيس: "من لم يصبِرْ على كلمة سمع كلمات، ورب غيظ تجرَّعْتُه؛ مخافة ما هو أشد منه"[10].

فليس من الحكمة ولا المروءة أن يتعرض المرء لهؤلاء، وإنما تمام ذلك أن يعرض عنهم، ويدع مجاراتهم والحديث معهم إلا بقدر ما تدعو إليه الحاجة؛ من سلام أو رده، أو جواب لسؤال، أو نحو ذلك.

لا ترجعن إلى السفيه خطابه *** إلا جواب تحيِّةٍ حيَّاكها
فمتى تُحَرِّكْه تحركْ جيفةً *** تزداد نَتْنًا إن أردت حِراكها[11]


27- تتبع العثرات والفرح بالزلات:

فكم من الناس من هذا دأبه وديدنه، يتتبع العثرات، ويفرح بالزلات، فإذا سمع قبيحًا فرح به ونشره، وإذا سمع حسنًا ساءه ذلك فطواه وستره.

إن يسمعوا سيئًا طاروا به فرحًا *** مني وما سمعوا من صالحٍ دفنوا[12]

وقال الآخر[13]:
يمشون في الناس يبغون العيوب لمن *** لا عيب فيه لكي يُسْتشرفَ العطبُ
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا *** شرًا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا

فهذا العمل من أحقر الأعمال، وأحط الخصال، وصاحبه من أضعف الناس نفسًا، وأسفلهم همة. 

     شرُّ الورى بعيوبِ الناس مشتغلٌ *** مثل الذباب يراعي مواطن العلل

قال ابن حبان رحمه الله: "فمن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه؛ فإنَّ أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه"[14].

فاللائق بالعاقل أن يشتغل بعيوبه، وأن يسعى في إصلاح نفسه، وإذا ما رأى من إخوانه خللًا أو نقصًا فليجتهد في النصح والتصحيح بعيدًا عن الثلب والتجريح.

ويقال لمن فرح بأخطاء إخوانه: لا تفرح، فلا بد أن تقع في الخطأ يومًا ما، فيفرح عليك، وحينئذ:

فلا تجْزَعَنْ من سيرة أنت سرتها *** فأول راضٍ سيرة من يسيرها

وأشد ما في هذا الباب تتبع عثرات أهل العلم، وتصيد زلاتهم وهفواتهم، لا بقصد تصحيحها، والتنبيه عليها.

وإنما لِتُتَّخَذَ ذريعة للنيل منهم، والطعن فيهم، وتزهيد الناس بهم، فهذا الصنيع ليس من الهمة في شيء.

قال العلامة محمد الخضر حسين رحمه الله: "كبير الهمة يستبين خطأ في رأي عالِم أو عبارة كاتب، فيكتفي بعرض ما استبان من خطأ على طلاب العلم، ليفقهوه. ويأبى له أدبه أن ينزل إلى سقط الكلام، أو يخفف إلى التبجح بما عنده. وقد حدثنا التاريخ عن رجال كانوا أذكياء، ولكنهم ابتلوا بشيء من هذا الخلق المكروه، فكان عوجًا في سيرهم، ولطخًا في صحفهم. ولو تحاموه لكان ذكرهم أعلى، ومقامهم في النفوس أسمى، ومنزلتهم عند الله أرقى"[15].

هذه بعض مظاهر دنو الهمة، وعند الحديث عن أسباب دنو الهمة سيتضح شيء من ذلك زيادة على ما مضى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1]- (العبودية، ص: [90]).

[2]- (رواه البخاري: [1474]، ومسلم: [1040]).

[3]- (رواه مسلم: [91]).

[4]- (انظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب؛ للسفاريني: [2/ 218-230]، ففيه كلامٌ جميل عن الكِبر، وانظر: التواضع ومنزلته في الدين؛ للشيخ حسين العوايشة، ص: [23-29]).

[5]- (رواه البخاري: [1/422]، ومسلم: [2607]).

[6]- (المحاسن والمساوئ، ص: [443]).

[7]- (أدب الدنيا والدين، ص: [261]).

[8]- (انظر: الكذب.. مظاهره وعلاجه، للكاتب: محمد الحمد، ص: [8-23]).

[9]- (ديوان أبي تمام: [4/296]، وانظر: أقوال مأثورة؛ د. محمد بن لطفي الصباغ، ص: [15]).

[10]- (عيون الأخبار: [3/284]).

[11]- (الحلم لابن أبي الدنيا، ص: [32]).

[12]- (عيون الأخبار: [3/84]).

[13]- (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء؛ لابن حبان البستي، ص: [178]).

[14]- (روضة العقلاء، ص: [125]).

[15]- (رسائل الإصلاح: [1/89]).
 

المصدر: كتاب: الهمة العالية

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

المقال السابق
(7) معوقات الهمة العالية (مظاهر دنو الهمة 3)
المقال التالي
(9) معوقات الهمة العالية (أسباب دنو الهمة 1)