الهمة العالية - (10) معوقات الهمة العالية (أسباب دنو الهمة 2)
فهناك من هو ذو رأي سديد، ومشاورة لأهل الرأي، فتراه يعزم على القيام بعمل من الأعمال بعد اقتناع تام، ومشاورة جادة، ودراسة متكاملة. فإذا لم يبق إلا التنفيذ تردد وتثاقل، وقدم رجلاً وأخَّر أخرى، ثم يتمادى به الأمر إلى أن يترك ما عزم عليه إلى غير رجعة.
10.ضعف الغيرة على الحق:
فالغيرة الصادقة تبعث صاحبها الى الفضائل، وتنهض به الى محاربة الفساد بكل صوره، وتأخذ بيده إلى مكافحة المبطل أو المفسد، وتقويم عوجه في تثبت وحزم. أما ضعف الغيرة على الحق أو فقدها فنقيصة تنزل بصاحبها إلى الحضيض (انظر رسائل الإصلاح [1/73]).
11. الإعجاب بالنفس والاستبداد بالرأي:
فالإعجاب بالنفس، والاستبداد بالرأي آية الجهل، ودليل السفه ونقص العقل؛ فالمعجب بنفسه لا يستشير العقلاء، ولا يستنير برأي الأكياس الفطناء، من أهل العقول الراجحة، والتجارب السالفة، ممن جمعوا الى جانب سداد الرأي والحكمة، النصح والتقوى والديانة؛ ذلك لأن خيالات الغرور ذهبت بذلك الإنسان كل مذهب، فجعلته معتداً بنفسه مستبدِّاً برأيه، وهكذا يقضي العمر وهو يراوح مكانه، لا يتقدم لمكرمة، ولا يرتقي لمنزلة.
مثلُ المُعْجَبِ في إعجابه *** مثلُ الواقفِ في رأس الجبل
يبصر الناس صغاراً وهو في *** أعين الناس صغيراً لم يزل
12. استشارة النَّوكي [1] والمخذلين:
فكما أن الإعجاب بالنفس، والاستبداد بالرأي سبب لدنو الهمة، فكذلك الاستشارة إذا لم تطلب من أهلها، وتبتغي من مظانها تكون سبباً لدنو الهمة. وذلك كحال من يستشير النوكى، والمرجفين، والمخذلين؛ فإن استشارتهم تورد المهالك، وتثني عن المعالي.
13. التردد:
فهناك من هو ذو رأي سديد، ومشاورة لأهل الرأي، فتراه يعزم على القيام بعمل من الأعمال بعد اقتناع تام، ومشاورة جادة، ودراسة متكاملة. فإذا لم يبق إلا التنفيذ تردد وتثاقل، وقدم رجلاً وأخَّر أخرى، ثم يتمادى به الأمر إلى أن يترك ما عزم عليه إلى غير رجعة، وكثيراً ما يجيء التردد في أمرٍ ما من ناحية الشهوات والعواطف، كالذي يثق -على سبيل المثال- بما في العلم من خير وشرف، ويقعده عنه حبُ الراحة، وإيثار الدعة، وما تنزع إليه النفس من اللذة الحاضرة.
والذي يقول:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمةٍ *** فإن فساد الرأي أن تترددا
إنما ينبه على التردد الناشىء عن نحو الشهوات والعواطف؛ فذلك التردد المفسد للرأي، الموقع في خسر. وإلا فلا يعد من التردد المذموم، ولا من قلة الحزم والعزم أن يستبين الرجل الحق أو المصلحة، فيقف دون عزمه مانع، كأن يعلم أن عقول الجمهور لا تتسع لقبوله، ويخشى الفتنة، فيرجئه ريثما يمهد له بما يجعله مقبولاً سائغاً.
كما لا يعد من قلة العزم أن يرى الرجل رأياً ويعقد النية على إنفاذه، ثم يبدوا له على طريق الحجة أنه غير صالح فينصرف عنه، وبالجملة فقوي العزيمة هو الذي تكون إرادته تحت سلطان عقله، فيقبل بها على ما يراه صواباً، ويدبر بها عما يراه فساداً (انظر رسائل الإصلاح [1/68ـ69]).
قال عبد قيس بن خفاف:
وإذا تشاجر في فؤادك مرةً *** أمران فاعمد للأعفِّ الأجمل
وإذا هممت بأمر سوء فاتئد *** وإذا هممت بأمر خير فاعجلِ[2]
14. المبالغة في احتقار النفس:
فكثير من الناس مصابون بهذا الداء؛ فالواحد من هؤلاء يبخس حظه، ويبالغ في احتقار إمكاناته، ولا يثق في نفسه البتة، بل يرى أنه دون الناس؛ وأنه لا قيمة له، ولا أمل في نجاحه، ولا يمكن أن يصدر عنه عمل عظيم، أو ينتظر منه خير كبير. فهذا شعور الضعة وصغرِ الشأن، من شأنه أن يقتل الطموح،ويفقد ثقة الإنسان بنفسه، فإذا هو أقدم على عمل شك في مقدرته، وارتاب في إمكان نجاحه.
ومن طبيعة الناس أنهم يحتقرون من احتقر شأنه، ويدوسون بأقدامهم من استذل. وفي الوقت نفسه يحترمون المقدام الواثق من نفسه، العالم بقدرها؛ فالثقة بالنفس فضيلة، وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة؛ فثقتك بنفسك تعني معرفتك الصحيحة بها، وبمقدار ما تتحمله من أعباء، وما تلتزمه من واجبات، وكذلك علمك بما لديها من استعداد، وملكات، ومواهب.
أما الغرور فيقوم على الكبر، وتعظيم النفس، وإعطائها أكثر مما تستحق، والمطالبة بالجزاء من غير عمل، وخداع الناس بالمظاهر الكاذبة من غير أن تكون ثمة قيمة حقيقية (انظر فيض الخاطر لأحمد أمين [6/128،247])، هذا وسيأتي مزيد بيان لهذا الأمر عند الحديث عن أسباب اكتساب الهمة العالية -إن شاء الله تعالى-.
15. الخور والمبالغة في تعظيم شأن الخوف:
فهذا السبب من أعظم الأسباب الداعية لدنو الهمة إن لم يكن أعظمها؛ فكم من الناس من أقصره الخوف عن تطلب الكمال، والسعي في درج العلا. فهذا يثنيه الخوف من الإخفاق عن تقديم أي عمل من الأعمال، وهذا يطير قلبه شعاعاً من الموت فيحجم عن منازلة الأعداء، وهذا يَفْرَقُ من التحدث أمام الناس؛ خشية أن يتلعثم، أو يُرْتَجَ عليه، وهذا لا يسطر حرفاً ولا ينبس ببنت شفةٍ؛ حذراً من انتقاد الناس له وهكذا..
وربَّ أمور لا تضيرك ضيرةً*** وللقلب من مَخْشَاتِهِنَّ وجيبُ[3]
وللقرآن أبلغ الكلم في تصوير حال الجبناء، فانظروا إليه إذ يصفهم، ويريكم كيف يذوقون موتات الفزع المرة بعد الأخرى، فيقول {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون من الآية:4].
ويريكم كيف يظهر أثر الجبن في أبصارهم، إذ يُقلِّبونها وهم في ذهولِ مَنْ أدركة الموت فيقول: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ} [الأحزاب من الآية:19] (رسائل الإصلاح [1/82]، وانظر فيض الخاطر [4/203ـ204])، كما أن القرآن نعى على الجبناء، ونبَّه على أنهم قد فقدوا جانباً في رجولتهم، قال تعالى في توبيخ قوم تأخروا عن الجهاد في سبيل الله، وقعدوا مع من لم يُخْلَقْنَ للطعن والضرب: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة من الآية:87].
ولا يتوارى عن أعين القوم, ولا يسل يده من أيديهم في حرب لهم فيها أمن وسيادة، إلا من كان حظه من الرجولة ضئيلاً أو مفقوداً (انظر الهداية الإسلامية ص[39])، فهذا النوع من الجبن ضرب من الخوف المذموم؛ فهو نوع من الوهم الذي لا حقيقة له، يقوم في الأذهان الحائرة المبلبلة، فيحول بينها وبين الإقدام؛ فهو خوف مبعثه رضا الناس وسخطهم، وليس الخوف على المبدأ والعقيدة. فالخوف الذي نشكوه خوف سلبي مانع من الإقدام؛ ولذا صح أن يكون وهماً من الأوهام، بخلاف الخوف المحمود الذي يبعث على الإقدام، واستفراغ الجهد، واستنفاذ الوسع، وإعداد أعلى العدد (انظر المسؤولية د.محمد أمين المصري ص[31ـ32]).
16. ضيق الأفق:
فلهذا الأمر علاقة كبرى في دنو الهمة؛ فهو يشل العقل، ويصد عن رؤية الحق، ويؤدي الى حصر التفكير، وضيق الرؤية، وإصدار الأحكام الناقصة أو الباطلة.
كما يؤدي إلى زيادة صغر النفس، والإفراط في الأثرة، والنكوص عن المعالي، فهناك من الناس من لا يعنيه في هذه الدنيا إلا نفسه، وذلك كل تفكيره، وسعيه، وغرضه. فإن عمل خارج هذه الدائرة فلهذه الغاية، فلا يفكر في الآخرين، ولا يعنيه شأنهم، سيان عنده شقوا أم سعدوا. فهو يحد العالم بحدود نفسه، إذا فكر فكر فيها, وإذا عَمِلَ عمل لها، ولا يعنيه من العمل إلا مقدار ربحه، خسر الناس أم ربحوا، قد تعلم درس الأخذ، ولم يتعلم درس العطاء.
وما الدنيا عنده إلا قنطرة يعبرها للوصول إلى غاياته.
وهناك من هو أسوأ من هذا، وهو من رفع نفسه فوق الناس؛ فكأنهم لم يخلقوا إلا له، فلم تخلق عيونهم إلا لتقع على مطالبه، ولا آذانهم إلا لتصغي إلى كلمته، ولا أيديهم إلا للعمل في خدمته، يسير في الحياة على ما يهوى، ويحب أن يسير الناس على ما يهوى.
فهذا -في الحقيقة- طفل كبير، وكم في الناس من أطفال كبار، وهم في طفولتهم أشكال وألوان؛ فهو طفل في نفسه، وإن كان كبير في سنه وجسمه؛ فالأمر في النفس ليس كالأمر في الجسم؛ فقد ينضج الجسم والنفس لا تزال على حالها نفس طفل، والشاعر كان محقاً حين قال:
لا بأس بالقوم من طول ومن عِظَمٍ *** جسم البغال وأحلام العصافير[4]
وضيِّقُ الأفق جبان رعديد، يخاف الأمور الصغيرة، ويشتد فزعه من الحوادث التافهة، ويغضب أشد الغضب للكلمة النابية، ويصل الى أقصى حد من الانفعال للحوادث اليومية التي يكفي لمرورها غض الطرف عنها، ويمكن بقليل من سعة العقل، وكبر النفس أن ينظر اليها ويبتسم من حدوثها، ولكنه يمعن في الألم منها؛ لضيق أفقه، وصغر نفسه، وخفة عقله.
فالذي يؤمل أن يسير الناس كما يشتهي، ويعملوا ما يريد، فخير له ألا ينتظر طويلاً؛ لأنه قد رام مستحيلاً، ولكن خير من ذلك أن تأخذ الناس كما هم، وأن تتلقى شرورهم،وأعمالهم الصغيرة بصدر رحب، وأفق واسع، ونفس مطمئنة. وبالجملة فمن ضاق أفقه ضاق صدره، ودنت همته، وتنغصت حياته، ولم يصدر عنه خير كثير، أو عمل كبير (انظر فيض الخاطر [3/194، 5/170ـ171،180]).
------------------
[1] (النوكى: جمع نوك وهو الأحمق؛ فالنوكي الحمقى وزناً ومعنى).
[2] (المفضليات للمفضل الضي ص[385]، والأصمعيات للأصمعي ص[230]).
[3] (مخشاتهن: خَشْيَتهنَّ، والوجيب: الاضطراب والخوف، انظر الأصمعيات ص[184]).
[4] (البيت لحسان بن ثابت انظر ديوانه ص[129]).
محمد بن إبراهيم الحمد
دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم
- التصنيف: