العقيد
إن تعذيب الأبرياء، والاعتداء عليهم بغير حق لهم ظلم عظيم، والله عز وجل ينتقم لهؤلاء الأبرياء من السفاحين والطغاة في الدنيا والآخرة، وفي هذه القصة الواقعية عبرة لأولى الألباب، فهل يعتبر الناس؟!!.
قال اللواء الركن محمود شيت خطاب: اضطرتني ظروفي الصحية إلى دخول أحد المستشفيات في بيروت لإجراء الفحوص الطبية خلال صيف سنة 1972م، وكان جيراني المرضى قسم من الضباط المتقاعدين وغير المتقاعدين، فآثرت أن أتعرف بهم وأزورهم وأواسيهم وأقدم الهدايا لهم، وبعثت أكبر باقة من باقات الزهور إلى ضابط لا ينام الليل ولا ينيم أحدا، وسألتني الممرضة: "ألك معرفة سابقة به؟". قلت: "لا، ولكنه لا ينام الليل ولا يتركني أنام، فلعله يحن على نفسه ويرفق بي بعد استلام هديتي".
وعلمت من الممرضة أنه في المستشفى منذ شهور وهو زبون دائم في المستشفى، لا يخرج منه أياما ليمكث بين أهله، إلا ويعود إليه شهورا ليمكث فيه، وزرت العقيد المريض، وكان يسمي نفسه (الكولونيل)، كان ضابطا قديما عمل في الشرطة الفرنسية أثناء الاحتلال الفرنسي للبنان.
كان عقله حاضرا، وكان منطقه سليما وكانت ذاكرته واعية، وكان قلبه ينبض، وهذا كل ما بقي له في الحياة.
أمراضه التي ابتلي بها كثيرة، الضغط، والسكر، وتصلب الشرايين، وتسمم في الدم، وتليف الكبد والكلى، وتهري لحم الرجلين والجسم، وكان يصحو نهارا ليخيل إليك أنه معافى، ولكنه كان ينهار ليلا حتى ليخيل إليك أنه لا يعيش ساعات الليل!
وكان في الليل يصرخ من الألم تارة، ويصرخ طالبا أحد الممرضين تارة أخرى، فإذا جاء الممرض لم يجد عنده مطلبا فيعود من حيث أتى، ولكن ما يكاد يصل إلى مكانه إلا ويستدعيه العقيد ثانية وثالثة ورابعة، وهكذا طوال الليل، حتى تشرق الشمس، وكان إذا خفت صوته يستعمل الجرس الكهربائي بشدة، وتبقى يده على زر الجرس حتى بعد قدوم الممرض.
وحين زرته أجهش بالبكاء وحدثني بقصته فقال: "كنت في شرطة الفرنسيين، وكنت برتبة كولونيل، أقود الشرطة المحلية، وكانت بيروت تخافني، وكان إسمي يخيف أشجع الشجعان، وكان الفرنسيون يعتمدون عليَّ، وكنت أخلص لهم كل الإخلاص، فإذا عجز الفرنسيون عن اكتشاف جريمة من الجرائم أحضروا المتهم إليَّ، فكنت أستخلص منه الاعترافات بالقوة! كنت لا أرحم أحدا، وكنت أمارس أنواع التعذيب، وكان المجرمون ينهارون فيعترفون بما أريد أو يريد الفرنسيون، فيساقون إلى المحاكم لينالوا ما يستحقونه من عقاب".
ومضى يسرد على مسمعي أربعة وثمانين نوعا من أنواع التعذيب كان يمارسها مع المتهمين، فاقشعر بدني من هول سرده وتعذيبه، ثم قال: "وما أعانيه اليوم عذاب من الله، فقد سقت إلى المحاكم كثيرا من الأبرياء، وعذبت كثيرا من الصالحين، إرضاء لأسيادي الفرنسيين"!
مضى الفرنسيون، وبقي العقيد تلاحقه اللعنات، حتى زوجته وأولاده وأقرباؤه لا يحبونه يتمنون على الله أن يموت، لأنه يعذبهم بصراخه، ولكنه يعذب نفسه أكثر مما يعذب الآخرين، كان يعذب ضحاياه في الليل، ويعذبه الله اليوم في الليل، أيضا، وكانت أعضاء المعذبين تتساقط في تعذيبه، واليوم تتساقط أعضاؤه عضوا عضوا، أبقى الله لسانه ليحدث الناس عن أعماله الإجرامية، وأبقى ذاكرته واعية ليعدد على الناس ما اقترف من آثام، وأبقى عقله حاضرا ليتذكر ويندم ولات ساعة مندم، وأبقى قلبه ينبض حتى يتحمل عذاب الدنيا {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه من الآية:127]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري).
إن تعذيب الأبرياء، والاعتداء عليهم بغير حق لهم ظلم عظيم، والله عز وجل ينتقم لهؤلاء الأبرياء من السفاحين والطغاة في الدنيا والآخرة، وفي هذه القصة الواقعية عبرة لأولى الألباب، فهل يعتبر الناس؟!
- التصنيف: