الهمة العالية - (22) أسباب اكتساب الهمة العالية (5)

منذ 2014-11-01

ينبغي لمتطلِّب الكمال، خصوصًا إذا كان رأسًا مُطاعًا، أن يتقدّم إلى خواصه، وثقاته، ومن كان يسكن إلى عقله من خدمه وخاشيته، فيأمرهم أن يتفقدوا عيوبه ونقاصه، ويطلعوه عليها، ويعلموه بها، فهذا مما يبعثه إلى التنزه من العيوب، والتطهُّر من دنسها، وهذا مما يؤهله لعليا المراتب، والسير قدمًا في درجها.

20- قبول النقد البنَّاء والنصيحة الهادفة:

فالنقد، والنصيحة إذا صدرا من ناقدٍ بصير، أو ناصحٌ أمين، أراد بنقده البنَّاء، ورام بنصحه الخير، كان جديرًا بمن توجه إليه ذلك أن يأخذ به، ويشرح صدره له، وأن يتقبله بقبولٍ حَسن، فذلك مما يدل على كرم النفس، وسِعة الأفق، وعلو الشأن.

وهو في الوقت نفسه سبب لعلو الهمة، وارتفاع المنزلة، وتناهي الفضل، والترقي في مراتب الكمال.

بل ينبغي لمتطلِّب الكمال، خصوصًا إذا كان رأسًا مطاعًا، أن يتقدّم إلى خواصه، وثقاته، ومن كان يسكن إلى عقله من خدمه وخاشيته، فيأمرهم أن يتفقدوا عيوبه ونقاصه، ويطلعوه عليها، ويعلموه بها، فهذا مما يبعثه إلى التنزه من العيوب، والتطهُّر من دنسها، وهذا مما يؤهله لعليا المراتب، والسير قدمًا في درجها.

بل ينبغي له أن يتلقى من يهدي إليه شيئًا من عيوبه بالبشر والقبول، وأن يظهر له الفرح ولا سرور بما أطلعه عليه.

بل المستحسن أن يجيز الذي يوقفه على عيوبه أكثر مما يجيز المادح على المدح، فإنه إذا لزم هذه الطريقة وعرف بها أسرع خواصة وأصحابه إلى تنبيهه على عيوبه.

وإذا نبه على ما فيه من النقص أنف من ذلك النقص، واستشعر قبحه، وأن الناس سيعيرونه به، ويصغرونه من أجله، فيلزمه حينئذ أن يأخذ نفسه بالتنزه من العيوب، ويقهرها على التخلص منها[1]، فإصلاح النفس لا يتم بتجاهل عيوبها، ولا بإلقاء الستار عليها[2].

قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمولاه مزاحم: "إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمِعتَ مني كلمة تربأ بي عنها، أو أفعالًا لا تحبها، فعظني عنده، وانهني عنه"[3].

21- حسن النية وإخلاص العمل:

ومدار الإخلاص على أن يكون الباعث على العمل أولًا امتثال أمر الله، ولا حرج على من يطمح بعد هذا إلى شيء آخر، كالفوز بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها.

بل لا  يذهب بالإخلاص بعد ابتغاء وجه الله أن يخطر في باله أن للعمل الصالح آثارًا طيبة في هذه الحياة الدنيا، كطمأنينة النفس، وأمنها من المخاوف وصيانتها من مواقف الهون، إلى غير هذا من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوةً إلى قوة.

هذا.. وإن لحسن النية، إخلاص العمل تأثيرًا عظيمًا في علو العهمة، فمن تعاكست عليه أموره، وتضايقت عليه مقاصده - فليعلم أنه بذنبه أُصيب، وبعدم إخلاصه عُوقب[4].

فالإخلاص يرفع شأن الأعمال، حتى تكون مراقي للفلاح، وهو الذي يحمل الإنسان على مواصلة عمل الخير، فمن يصلي؛ رياءً أو حياءً من الناس لا بد أن تمرّ عليه أوقات لا ينهض فيها إلى صلاة.

ومن يحكم بالعدل؛ ابتغاء السمعة، أو خوف العزل قد تُعرض له منفعة يراها ألذ من السمعة، أو قد يأمَن العزل - فلا يُبالي أن يدع العدل جانبًا.

ومن يفعل المعروف؛ لتردّدٍ ذكره الألسنة في المجالس أو الصحف قد يرى بعينه سبيلًا من سُبل الخير في حاجةٍ إلى مؤازرة، ولكنه لا يرى بجانبه لسانًا أو قلمًا شأنه إطراء المؤازرين، فيصرف عنه وجهه، وهو يستطيع أن يمد إليه يده، ويسد حاجته.

ثم إن الإخلاص يجعل في عزم الرجل متانة، ويربط على قلبه، فيمضي في عمله إلى أن يبلغ الغاية.

وكثيرٌ من المشروعات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلاَّ الإخلاص.

ولولا الإخلاص يضعه الله في نفوسٍ زاكيات - لحُرِم الناس من خيراتٍ كثيرةٍ تقف دونها عقبات.

فالإخلاص يمد جأش[5] صاحبه بقوة، فلا يتباطأ أن ينهض للدفاع عن الحق، ولا يُبالي بما يلاقيه في ذلك السبيل.

والإخلاص يشرح صدر صاحبه للإنفاق في وجه البر، فتراه يؤثرها بجانبٍ من ماله، وإن كان به خصاصة.

والإخلاص يُعلِّم صاحبه الزهد في عَرض الدنيا، فلا يُخشى منه أن يناوئ الحق، أو يلبسه بشيءٍ من الباطل، ولو أمطر عليه أشياع الباطل فضةً أو ذهبًا.

والإخلاص يحمل القاضي على تحقيق النظر في القضايا، فلا يفصل في قضيةٍ إلاَّ بعد أن يتبيّن له الحق.

والإخلاص يوحي إلى الأستاذ أن يبذل جهده في إيضاح المسائل، وألا يبخل على الطلاب بما تسَعُه أفهامُهم من المباحث المفيدة، وأن يسلك في تدريسهم الأساليب التي تُجدِّد نشاطهم للتلقي عنه.

والإخلاص يصون التاجر عن أن يخون الذي يأتمنه في صنف البضاعة أو قيمتها؛ ويحمل الصانع على إتقان عمله حسب الطاقة.

والإخلاص يردع قلم الكاتب عن أن يقلب بعض الحقائق أو يكسوها لونًا غير لونها؛ إرضاءً لشخص أو طائفة.

فإذا كان للإخلاص هذه المآثر العظيمة فحقيق بنا أن نربي أنفسنا ونشأنا على أن يكونوا مخلصين فيما يقولون أو يفعلون، وأن نستحضر ما يناله المخلص من حمدٍ وكرامة، وحُسن عاقبة، لكي نُخرج للناس رجالًا يقومون بالعمل الذي يتولونه بحزمٍ وإتقان (انظر: رسائل الإصلاح، ص: [1/ 9-12]).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- (انظر: تهذيب الأخلاق للجاحظ، ص: [60-61]).

[2]- (انظر: أقوال مأثورة، ص: [455]).

[3]- (عيون الأخبار: [2/18]).

[4]- (انظر: أدب الطلب، ص: [133]. وانظر: تذكرة السامع والمتكلم، ص: [68-70]).

[5]- (الجأش: القلب).

 

المصدر: كتاب: الهمة العالية

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

المقال السابق
(21) أسباب اكتساب الهمة العالية (4)
المقال التالي
(23) أسباب اكتساب الهمة العالية (6)