الهمة العالية - (23) أسباب اكتساب الهمة العالية (6)

منذ 2014-11-02

عزيز النفس لا يريق ماء وجهه، ولا يبذل عِرضه فيما يُدنِّسه، فيبقى موفور الكرامة، مرتاح الضمير، مرفوع الرأس، شامخ العرنين، سالِمًا من ألم الهوان، مُتحرِّرًا من رقِّ الأهواء ومن ذلِّ الطمع، لا يسير إلاَّ وفق ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله ويدعو إليه؛ فعِزَّة النفس من كبر الهمة، "وكبر الهمة يعقد الألسنة عن الانطلاق في مجاري التملُّق والمداهنة".

23- عِزَّة النفس:

فعِزَّة النفس تعني الارتفاع عن مواضع المهانة، ويقابلها الضعة، وهي انحدار النفس في المهانة[1].

فعزيز النفس لا يريق ماء وجهه، ولا يبذل عِرضه فيما يُدنِّسه، فيبقى موفور الكرامة، مرتاح الضمير، مرفوع الرأس، شامخ العرنين، سالِمًا من ألم الهوان، مُتحرِّرًا من رقِّ الأهواء ومن ذلِّ الطمع، لا يسير إلاَّ وفق ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله ويدعو إليه؛ فعِزَّة النفس من كبر الهمة، "وكبر الهمة يعقد الألسنة عن الانطلاق في مجاري التملُّق والمداهنة" (حياة الأمة، ص: [31]).

ولهذا تجد أن أشد الناس عزمًا ومضاءً هو أنزههم نفسًا، وأبعدهم عن الطمع وجهه.

قال الثعالبي: "ومن أحسن ما سمعت في القناعة قول ابن طباطبا العلوي:

كن بما أوتيته مقتنعًا *** إن في نيل المنى وشك الردى
تستدم عسر القنوع المكتفي *** وهلاك المرء في ذا السرف"[2]

قال الإمام الشافعي رحمه الله[3]:
أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي *** وأحييت القنوع وكان ميتًا
إذا طمعٌ يَحِلُّ بقلب عبد *** فإن النفس ما طمعت تهون
ففي إحيائه عرضٌ مصون *** عَلَتْه مهانة وعلاه هون

وقال[4]:
رأيت القناعةَ كنز الفتى *** فلا ذا يراني على بابه
وصرت غنيًا بلا درهم *** فصرت بأذيالها ممتسك
ولا ذا يراني به منهمك *** أَمُرُّ على الناس شبه الملك

ومما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله[5]:

أفادتني القناعة كلَّ عزٍّ *** فصيرها لنفسك رأسَ مالٍ
تحُز ربحًا وتغنى عن بخيل *** وهل عزٌّ أعز من القناعةْ
وصيِّرْ بعدها التقوى بضاعةْ *** وتنعم بالجنان بصبر ساعةْ

وأنشد ثعلب[6]:
من عفَّ خفَّ على الصديق لقاؤه *** وأخوك من وفّرت ما في كيسه
وأخو الحوائج وجهه مبذول *** فإذا استعنت به فأنت ثقيل

ثم إن عِزَّة النفس تُلقي على صاحبها مهابةً ووقارًا في العيون، وتحرز له جلالة ومكانة في القلوب، وذلك مما تنشرح له صدور العظماء.

وإنما عيب الرجل في أن يجعل هذه المكانة غايته المنشودة، أو أن يتخذها حبالةً لاصطياد مآرب لا يتعداه نفعها.

ولهذه الخصلة -كذلك- آثار صالحة في الاجتماع؛ فإن الأمة التي تشرب في نفوسها العِزَّة يشتد فيها الحرص على أن تكون مستقلة بشؤونها، غنية عن أمم من غيرها، وتبالغ في الحذر في أن تقع في يدِّ من يطعن في نحرِ كرامتها، ولا يستحيي الإنسانية أن تراه مهتضمًا لحقٍ من حقوقها[7].

ولئن كانت عِزَّة النفس جميلة رائعة فلهي من أهل العلم أجمل وأروع.

ولئن كانت مرغوبة مطلوبة من كل أحد فلهي من أهل العلم أولى وأحرى.

فأكرم بمن رفعه العلم فرفع العلم، فصار عودًا مُرًا، ومكسرًا صلبًا، لا تلين له في نصرة الحق قناة، ولا يفت له عضد، يقف للمبطلين موقف الشجي بين الحلق والوريد، فيصارعهم بالحجة، ويفلجهم بالبينة.

وأجدر بذي العلم أن يكون ذا نفسٍ عزيزةٍ زكية، وساحة طاهرة نقية؛ حتى لا يكون الخلل حائلًا بينه وبين هداية الناس[8].

ورحم الله القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني؛ إذ يقول في عِزَّة أهل العلم[9]:

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما *** أرى الناس من داناهم هان عندهم
ولم أقضِ حق العلم إن كان كلما *** وما كل برق لاح لي يستفزني

إذا قيل: هذا منهل قلت قد أرى *** أنهنهها عن بعض ما لا يشينها
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي *** أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة؟!

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا
رأوا رجلًا عن موقف الذل أحجما *** ومن أكرمته عِزَّة النفس أكرما

بدا طمع صيرته لي سُلَّمَا *** ولا كل من لاقيت أرضاه مُنعّما
ولكن نفس الحُرِّ تحتمل الظما *** مخافة أقوال العدا فيم أولما

لأخدم من لاقيت لكن أخدما *** إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو عظموه في النفوس لعظما *** مُحيَّاه بالأطماعِ حتى تَجهَّما

وصفوة المقال في عِزَّة النفس أنها ترجع إلى معرفة المرء قيمة نفسه؛ فلا يُوردها إلاَّ الموارد التي تليق بها؛ فيشعر بكرامة نفسه، ويشعرها بما لها من حقوق، فلا يسمح لمخلوقٍ -كائنًا من كان- أن ينال منها مثقال ذرة، كما يشعر بما عليه من واجبات، فلا يسمح لنفسه أن يعتدي على حقوق الناس مثقال ذرةٍ أيضًا.

وهي بمعناها الدقيق احترام نفسك من غير احتقار لأحد، وأن تقف موقفًا له جانبان: فإن نظرت إلى من هو أعلى منك في المنصب والجاه ونحو ذلك؛ فلا تُمكِّنه أن ينال من نفسك ولو ذرة، ولا أن يتعدى حدوده ولو شعره.

وإذا نظرت إلى من هو أسفل منك فلا تتعدى حدودك، وإذا شعرت باستخذائه وذلته فارفع مستواه ما استطعت حتى يصل إلى الحدود (انظر: فيض الخاطر، ص: [2/147]، و[149]).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

[1]- (انظر: رسائل الإصلاح: [1/ 124-125]).

[2]- (أحسن ما سمعت، ص: [22]).

[3]- (ديوان الشافعي، ص: [85]).

[4]- (ديوان الشافعي، ص: [27]).

[5]- (ديوان الإمام علي، ص: [121-122]).

[6]- (عين الأدب والسياسة؛ لعبد الرحمن بن هذيل، ص: [137]).

[7]- (انظر: رسائل الإصلاح، ص: [1/125-126]).

[8]- (انظر: السعادة العظمى، ص: [209-212]، وحياة الأمة، ص: [31-32]).

[9]- (أدب الدنيا والدين، ص: [83]. والبداية والنهاية؛ لابن كثير، ص: [11/355]. وخاص الخاص، ص: [228-229]).


 

المصدر: كتاب: الهمة العالية

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

المقال السابق
(22) أسباب اكتساب الهمة العالية (5)
المقال التالي
(24) أسباب اكتساب الهمة العالية (7)