الهمة العالية - (25) أسباب اكتساب الهمة العالية (8)
وقد يظن ظان أن العفو والحلم عن المسيئين مع القدرة موجب للذلة والمهانة، وقد يجر إلى تطاول السفهاء، وهذا خطأ؛ ذلك أن العفو والحلم لا يشتبه بالذلة في حال؛ فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب بالكرامة، أما الحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه، حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومهابة.
24- الإعراض عن الجاهلين:
فهذا العمل سبب لعلو الهمة، ورفعة المنزلة، ووفور الكرامة، والبعد عن موجبات الذلة، فمن أعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه، قال عز وجل: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، فهذه الآية جمعت أصول الأخلاق؛ فهي علاج رباني للراحة من شياطين الإنس، بالإعراض يحفظ الرجل على نفسه عزتها؛ إذ يرفعها عن مجاراة الطائفة التي تلذ الإقذاع والمهاترة.
قال الشافعي:
أعرض عن الجاهل السفيه *** ما ضر نهر الفرات يوماً
فكل ما قال فهو فيه *** لو خاض بعض الكلاب فيه[1]
وقال:
إذا سبني نذل تزايدت رفعة *** ولو لم تكن نفسي علي عزيزة
وما العيب إلاَّ أكون مساببه *** لمكنتها من كل نذل تحاربه[2]
وقال السموأل:
رب شتم سمعته فتصاممــ *** ـت وغيٍّ تركته فكفيت[3]
وقال المثقب العبدي:
وكلام سيىء قد وقرت *** فتعزيت، خشاة أن يرى
ولبعض الصفح والإعراض عن *** أذني عنه وما بي من صمم
جاهل أني كما كان زعم *** ذي الخنا أبقى وإن كان ظلم[4]
وقال الأصمعي: "بلغني أن رجلاً قال لآخر: واللَّه لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً، فقال له الآخر: لكنك إن قلت عشراً لم تسمع واحدة" [5]، وشتم رجل الحسن وأربى عليه، فقال له: "أما أنت فما أبقيت شيئاً، وما يعلم اللَّه أكثر" [6].
وقال بعض الشعراء:
إني لأعرض عن أشياء أسمعها *** أخشى جواب سفيه لا حياء له
حتى يقول رجال إن بي حمقا *** فسل وظن أناس أنه صدقا[7]
قال ابن المقفع: "واعلم أنك ستبتلى من أقوام بسفه سيطلع منك حقداً، فإن عارضته أو كافأته بالسفه فكأنك رضيت ما أتى به؛ فأحببت أن تحتذي مثاله، فإن كان ذلك عندك مذموماً فحقق ذمك إياه بترك معارضته، فأما أن تذمه وتمتثله [8] فليس في ذلك سداد" [9].
وقال الخطابي: أنشدني ابن مالك، قال: أنشدني الدغولي في سياسة العامة:
إذ أمن الجهال جهلك مرة *** وإن أنت نازيت السفيه إذا نزا
ولا تتعرض للسفيه وداره *** فيخشاك تارات ويرجوك تارة
فعرضك للجهال غنم من الغنم *** فأنت سفيه مثله غير ذي حلم
بمنزلة بين العداوة والسلم *** وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم[10]
25- العفو والصفح، ومقابلة الإساءة بالإحسان:
وهذا الأمر كسابقه، وهو قريب منه من حيث كونه سبباً لعلو المنزلة، ورفعة الدرجة، فكثيراً ما يكون الصفح عن المسيء، والعفو عن زلته - دواء لسوء خلقه، وتقويماً لعوجه، فيعود الجفاء إلى إلفة، والمناوأة إلى مسالمة، أما التسرع إلى دفع السيئة بمثلها أو بأشد منها دون نظر إلى ما يترتب عليها من الأثر السيىء، فدليل ضيق الصدر والعجز عن كبح جماح الغضب.
وإنما يتفاضل الناس في السماحة والسيادة على قدر تدبرهم للعواقب، وإسكاتهم الغضب إذا طغى [11].
قال عمر بن عبد العزيز: "أحب الأمور إلى اللَّه ثلاثة: العفو عند المقدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبدة" [12]، وعن داود بن الزبرقان قال: "قال أيوب: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم" [13].
وقال الشافعي:
لما عفوت ولم أحقد على أحد *** إني أحيي عدوي عند رؤيته
وأظهر البشر للإنسان أبغضه *** أرحت نفسي من ظلم العداوات
لأدفع الشر عني بالتحيات *** كأنه قد حشى قلبي مودات[14]
فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجدر بالعاقل كما قال ابن حبان: "توطين نفسه على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة؛ إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها" [15].
وقد يظن ظان أن العفو والحلم عن المسيئين مع القدرة موجب للذلة والمهانة، وقد يجر إلى تطاول السفهاء، وهذا خطأ؛ ذلك أن العفو والحلم لا يشتبه بالذلة في حال؛ فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب بالكرامة، أما الحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه، حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومهابة.
سياسة الحلم لا بطش يكدرها *** فهو المهيب ولا تخشى بوادره[16]
وقال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار:
هو العسل الماذيُّ[17] حلماً ونائلاً *** وليثٌ إذا يلقى العدوَّ غضوب
لقد كان أما حلمه فَمُروَّح *** علينا وأما جهله فعزيب[18]
حليم إذا ما سورة[19] الجهل أطلقت *** حُبى[20] الشِّيب للنفس اللجوج غلوب[21]
وقال فيه:
حليم إذا ما الحلم زين أهله *** مع الحلم في عين العدو مهيب[22]
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: « » (رواه مسلم:4/2001).
فالعفو إسقاط حقك جوداً وكرماً وإحساناً مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك؛ رغبة في الإحسان، ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل؛ فإن صاحبه يترك الانتقام عجزاً وخوفاً، ومهانة نفس فهذا غير محمود؛ بل لعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه [23].
26- التواضع:
فالتواضع -في حقيقته- هو بذل الاحترام والعطف والتقدير لمن يستحقه [24].
والتواضع دليل على كبر النفس، وعلو الهمة، وهو -في الوقت نفسه- سبيل لاكتساب المعالي، والترقي في الكمالات، فهو خلق يرفع من قدر صاحبه، ويكسبه رضا أهل الفضل ومودتهم، ويبعثه على الاستفادة من كل أحد، وينأى به عن الكبر، والاستنكاف من قبول الحق والأخذ به، ومن هنا يكمل السؤدد، ويعلو القدر، ويتناهى الفضل، ثم إن التواضع يغري باكتساب المعالي من جهة أن الناس يعجبون بالأكابر والعظماء إذا تواضعوا، فيقودهم ذلك إلى محبتهم، والاقتداء بهم، والسير على منوالهم.
قال ابن المبارك: "كان يقال: الغنى في النفس،،الكرم في التقوى، والشرف في التواضع" [25].
وكان يقال: "ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة" [26]. ثم إن المتواضع يرفع من أقدار الناس، وينزلهم منازلهم، ويشعر النوابغ بقيمتهم، واستعدادهم كي يكونوا من ذوي الشرف والمروءات.
ثم إن من تواضع لله رفعه، فإذا رفع اللَّه أحداً فمن ذا الذي سيخفضه ويضعه؟
وأحسن أخلاق الفتى وأتمها تواضعه للناس وهو رفيع [27].
---------------------------------
[1]- ديوان الشافعي ص90.
[2]- ديوان الشافعي ص22.
[3]- الأصمعيات ص85.
[4]- المفضليات ص294.
[5]- عيون الأخبار 3/285.
[6]- عيون الأخبار 3/287.
[7]- عيون الأخبار 3/284.
[8]- تمتثله: تحتذيه وتسلك مسلكه.
[9]- الأدب الصغير والأدب الكبير ص155.
[10]- العزلة للخطابي ص206-207.
[11]- انظر: الهداية الإسلامية ص83.
[12]- روضة العقلاء ص131.
[13]- روضة العقلاء ص131.
[14]- ديوان الشافعي ص82.
[15]- روضة العقلاء ص131.
[16]- انظر رسائل الإصلاح 1/186.
[17]- العسل الماذي: العسل الأبيض اللين.
[18]- مروَّح: من الرواح، وعزيب: بعيد.
[19]- سورة الجهل: حِدَّتُه.
[20]- حبى الشِّيب: الحبي جمع حُبْوَة، وهي الثوب الذي يحتبى به، وسيأتي مزيد بيان لها فيما بعد، وإنما خص الشِّيب؛ لأنهم أكثر وقاراً من غيرهم، فالممدوح يكبح جماح غضبه في الوقت الذي تثور فيه ثائرة أهل الوقار.
[21]- الأصمعيات ص95.
[22]- الأصمعيات ص100.
[23]- انظر: الروح لابن القيم ص359 ، وانظر تفصيل الحديث عن ما مضى في كتاب: سوء الخلق (مظاهره-أسبابه- علاجه) للكاتب ص110-113.
[24]- انظر: رسائل الإصلاح 1/127.\
[25]- غذاء الألباب: 2/231.
[26]- غذاء الألباب: 2/232.
[27]- غذاء الألباب: 2/233.
محمد بن إبراهيم الحمد
دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم
- التصنيف: