تشديدات القرآن - ولفتة رابعة: في سبيل القصد

منذ 2014-11-12

إن لهذه الهداية سبيل وطريق، يسلكه السالكون، حتى يخرجوا به من الظلمات إلى النور، ويصلوا به إلى الحق، الذي دون بلوغه بُعدُ الزمان والمكان، وضعف الإنسان؛ في نهاية الغاية، هنــاك بعد {إلــــــى}! وهذه أيضًا من لطائف استعمال الحرف {إلـــى} في تعدية الهداية للحق بالنسبة للمخلوقين.

أعني به السبيل المستقيم الموصِل لهذا القصد العظيم، وتبيَّن مما سبق أن الشركاء لا قوة لهم ولا حول في بلوغ مقصدهم ولو كان حقًّا، وأن ذلك على الله يسيرٌ هَيِّن، عَنونت لها بمقال: اللفتة الأولى: في اليسر والتحقق أو المشقة والمخاطرة..

وأن الله تعالى هو وحده القادر إلى بلوغ القصد، وتبليغه إياه من يشاء من عباده، وأن في تقديم لفظ الجلالة إفادة الحصر أنه وحده مالك الهداية والمختص بها {الله يهدي للحق}، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، فإذا كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لا يقدر على أن يهدي للحق هداية توفيق، ولا هداية دلالة إلا بعون الله له وتوفيقه إياه؛ فما بالك بغيره من البشر؟! أمَّا الله تعالى فكما قال في الآية الأخرى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]. وعنونتُ لها بـ  ولفتة ثانية: في بلوغ القصد.

وأنهم في الأصل لا قصدَ لهم حسن في دعواهم الحق، وادِّعائهم طلبه والدعوة إليه، وإنهم  يقصدون استخدام الحق لنيل مآربهم واستعباد الناس، والتألُّه عليهم بذلك، وعنونت لها بـ  اللفتة الثالثة: في حسن القصد.

والآن في هذه اللفتة الرابعة نقول: إن لهذه الهداية سبيل وطريق، يسلكه السالكون، حتى يخرجوا به من الظلمات إلى النور، ويصلوا به إلى الحق، الذي دون بلوغه بُعدُ الزمان والمكان، وضعف الإنسان؛ في نهاية الغاية، هنــاك بعد {إلــــــى}! وهذه أيضًا من لطائف استعمال الحرف {إلـــى} في تعدية الهداية للحق بالنسبة للمخلوقين.

قال الشيخ الشعراوي وسبب وجود اللام في قوله: {يهدي إِلَى الحق} هو النظرة إلى الغاية، وسبب وجود: {إِلَى الحق} هو لفت الانتباه إلى أن الوصول إلى الغاية يقتضي طريقاً، فأراد الحق سبحانه في آية واحدة أن يجمع التعبيرين معاً)( 1).

وهذه الطريق الهادي هو الإسلام العظيم، وهو القرآن الكريم، كما بيَّنه الله-سبحانه-، فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9]، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ،يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:16] وقال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[النور:46]، أي أن الله يهدي إلى الحق بهذا القرآن الهادي، والمتضمن الطريق المستقيم؛ الواصل إلى نهايته وغايته، من سلكه اهتدى ونجا وما ضلَّ أبدًا، ووصل إلى بَرِّ الأمان في أمان. ومن تركه ضلَّ وغوى وهوى به الهوى.

وكما أقرت به الجن:" {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30]، " {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجن:1-23]، فأقرَّت بأن هذا هو طريق الهداية المستقيم الهادي إلى الرشد.
أما الشركاء فاتَّبعوا طُرُقَ الأهواء، وتفرَّقت بهم السُّبُل؛ فضلُّوا وأضلُّوا: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }[الروم:29].

أجل: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} الآية[يونس: 35]، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}[الأحزاب:4].

سبيل واحد فقط –إذَنْ- هو الموصل إلى قصد الهداية، هو سبيل الهع سبحانه، الذي أنزله على رسوله الكريم في شريعته المطهرة ودينه القويم، وباقي السُّبُل إلى ضلال، كما قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:153]، وهو سبيل القصد الوحيد، والصراط السَّوِيّ المستقيم، فمن طلب الهداية فليسلكه، وليستقم عليه كما أمره الها سبحانه نبيَّه والأمة من بعده:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[هود: 112]، ومن أطاع النبي صلى الهت عليه وسلم في هذا فقد بلغ قصده من الهداية ونال مطلوبه منها: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[النور:54].

تلكم أربع لفتات: لفتة في أولى : اليسر والتحقق أو المشقة والمخاطرة في طلب الهداية وتحقيقها؛ ولفتة ثانية في: بلوغ القصد من وراء طلب الهداية ودعواها، وأخرى ثالثة: في حسن القصد في ذلك، وأخرى رابعة: في سبيل القصد، والسبيل الموصل إلى الهداية، فلا سبيل إليها إلا سبيل الله ومنهجه، وما إن تفرقت السبل بالعبد إلا وكان كما قال تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج:31].

نُذكِّر أن هذه اللفتات فروع للتشديدة : لطائف: يَهَدِّي
ويتبع بقصيرة إن شاء الله
----------------------
(1)- محمد متولي الشعراوي (المتوفى: 1418هـ)، تفسير الشعراوي – الخواطر، 10 / 5925.

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

المقال السابق
اللفتة الثالثة: في حسن القصد
المقال التالي
صيود الأوراد(15): فرضناها.. فرَّضناها