الهمة العالية - (39) نماذج رائعة للهمة العالية: نور الدين محمود (2)
(نور الدين محمود): لقد كان ذا غيرة صادقة على دين الله، ومحارم المسلمين، فلقد تفتحت عيناه على أحوال المسلمين المتردية، وعلى هزائمهم المتلاحقة، وكان ذلك يؤلمه أشد الألم، ومما يذكر في هذا الصدد أن نور الدين كان قليل الابتسام جدًا، فلما وعظه إمامه بأن الابتسام من وصايا النبوة قال له نور الدين: "لا تؤاخذني أيها الشيخ، كيف أبتسم وآلاف المسلمات سبايا عند كفار لا يتقون، ولا يرحمون؟ وكيف أبتسم والمسجد الأقصى يدنسه العدو؟!".
(نور الدين محمود) تابع صفاته ومناقبه:
ج- الغيرة الصادقة:
لقد كان ذا غيرة صادقة على دين الله، ومحارم المسلمين، فلقد تفتحت عيناه على أحوال المسلمين المتردية، وعلى هزائمهم المتلاحقة، وكان ذلك يؤلمه أشد الألم، ومما يذكر في هذا الصدد أن نور الدين كان قليل الابتسام جدًا، فلما وعظه إمامه بأن الابتسام من وصايا النبوة قال له نور الدين: "لا تؤاخذني أيها الشيخ، كيف أبتسم وآلاف المسلمات سبايا عند كفار لا يتقون، ولا يرحمون؟ وكيف أبتسم والمسجد الأقصى يدنسه العدو؟!" [1].
د- الهمة العالية:
لقد كان ذا همة عالية، ونفس كبيرة طماحة، فمع أنه نشأ وهو يرى ما حل بالمسلمين من ضعف وتفرق ومهانة الاّ أن ذلك لم يفت من عضده، ولم يئن من عزمته، بل كان ذلك دافعاً له أن يسعى في رفع البلاء عن الأمة، وفي استعادة ما سلب منها من عز ومجد، ولقد كانت أمنيته وهاجسه وشغله الشاغل فتح بيت المقدس، وتطهيره من رجس الصليب، ومما يدل على علو همته، وكبر نفسه أنه عندما كان في حلب، وقت تسلط الصليبيين وسيطرتهم قام بعمل منبر عظيم، وبالغ في تحسينه وإتقانه، وقال: "هذا عملناه؛ لينصب ببيت المقدس".
وكان الناس آنذاك يسخرون منه، ويستبعدون تحقيق أمنيته؛ الأّ أنه لم يلتفت الى ذلك، واستمر في إصلاح ذلك المنبر، وحاله تلك كحال نبي الله نوح عليه السلام عندما كان يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، ولقد أراد نور الدين من هذا الصنيع أن يبث الروح، وأن يبعث الهمم, وأن يبدد اليأس الذي خيم على كثير من القلوب، ولقد حقق الله له أمنيته، ففتحت بيت المقدس، ونصب فيها المنبر على يد تلميذه صلاح الدين، وذلك بعد وفاة نور الدين..
يقول أبن الأثير بعد أن تحدث عن بيت المقدس: "ولما كان الجمعة الأخرى رابع شعبان صلى المسلمون فيه الجمعة، ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة الصخرة، وكان الخطيب والأمام محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق، ثم رتب صلاح الدين خطيباً وإماماً برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر، فقيل له: إن نور الدين محموداً كان قد عمل بحلب منبراَ أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه واتقانه، وقال: هذا عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنه، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده" [2].
هـ- الشجاعة المتناهية: قال ابن الأثير: "وأما شجاعته فإليها النهاية، وكان في الحرب يأخذ قوسين وتركشين" [3]؛ ليقاتل بها، فقال القطب النيسابوري الفقيه: "بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام؛ فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف"، فقال له نور الدين: "ومن محمود حتى يقال له هذا؟ من قبلي حفظ الله البلاد والإسلام، ذلك الله الذي لا إله الاّ هو" [4]، وقال ابن قسيم الحموي يصف شجاعته:
تبدو الشجاعةُ في طلاقة وجهه *** كالرمح دل على القساوة لينُه
ووراء يَقْظَتِه أناةُ مجربٍ *** لله سطوةُ بأسِهِ وسكونُه[5]
وقال الذهبي: "وكان بطلاً شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير [6]، وقال: "قال ابن واصل: كان من أقوى الناس قلباً وبدناً، ولم ير على ظهر فرس أحد أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك" [7]، وقال الذهبي: "وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها، قلت -أي الذهبي-: قد أدركها على فراشه، وعلى ألسنة الناس: نور الدين الشهيد" [8].
وتتجلى شجاعته في كثرة حروبه وفتوحاته التي تنم عن شجاعة نادرة، وتبدو -أيضاً- من كثرة تعرضه للشهادة ورغبته فيها، ومع ذلك مات على فراشه بعلة الخوانيق التي ألمت بحلقه وذلك سنة (569هـ)
فحبُّ الجبان النفسَ أورده التقى *** وحبُّ الشجاعِ النفسَ أورده الحربا[9]
هذا وسيمر قريباً ذكر لشجاعته من خلال وصف الشعراء له.
و- الهيبة الوافرة، والتواضع الجم:
كان مهيباً وقوراً، وفي نفس الوقت كان جمَّ التواضع لطيف المعشر، وتلك هي أخلاق العظماء، ولقد اشتهر عنه ذلك الأمر، قال ابن الأثير: "وكان وقوراً مهيباً مع تواضعه، وبالجملة فحسناته كثيرة، ومناقبه غزيرة لا يحتملها هذا الكتاب" [10]، وقال الذهبي عن ابن عساكر: "وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبته ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته ما يحيره، حكى من صَحِبه حضراً وسفراً أنه ما سمع منه كلمة فُحش في رضاه ولا في ضجره" [11].
وقال ابن كثير: "وقد كان مهيباً وقوراً شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلاّ بإذنه.
ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه، ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه.
ومع هذا كان إذا دخل عليه أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له، ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً مستكثراً يقول: "هؤلاء جند الله، وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيتهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا" [12].
ز- الحرص على اتباع السنة:
كان حريصًا على اتباع السنة ونشرها، والعمل بها, وقد مر بنا أنه كان كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، ومما يؤكد ذلك أنه: "أظهر ببلاده السنة، وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل؛ لأن شعار الرفض كان ظاهراً بها" [13].
ومن شدة حرصه على اتباع السنة أنه: "قد سمع عليه جزء الحديث وفيه: (فخرج رسول الله متقلداً السيف)، فجعل يتعجب من تغير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف كان يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم، ولا يفعلون كما فعل رسول الله؟ ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلاّ متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني الى الموكب وهو متقلد السيف، وجميع الجيش كذلك يريد بذلك الإقتداء برسول الله" [14].
ح- محبة العلم والعلماء والصالحين: كان محباً للعلم والعلماء والصالحين، وكان حريصاً على التشبه بهم، وتقريبهم، ومؤاخاتهم وزيارتهم [15]، قال ابن الأثير: "وكان يكرم العلماء، وأهل الدين، ويعظمهم، ويقوم إليهم، ويجلس معهم، وينبسط معهم، ولا يرد لهم قولا، ويكاتبهم بخط يده" [16]، وكان يجزل بهم العطايا كما مر، وكان حريصاً على العلم، ويظهر ذلك من كثرة أطلاعه على الكتب، وحرصه على سماع الحديث، قال ابن عساكر: "روى الحديث، وأسمعه بالإجازة" [17].
ط- الرحمة بالمساكين: مر بنا شيء من ذلك، مظاهر تلك الرحمة أنه إذا احتلم مماليكه أعتقهم وزوجهم بجواريه، ومتى تشتكي الناس من ولاته عَزَلَهم [18]، هذه بعض صفاته ومناقبه، فما أحرى بمن اتصف بها أن ينال كل خير ومجد وسؤدد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- انظر أبطال ومواقف ص434.
[2]- الكامل 9/184-185.
[3]- التركش أو التركاش: كلمة فارسية معربة معناها الجعبة أي جعبة السهام.
[4]- الكامل 9/125.
[5]- الروضتين 1/57، وانظر الأدب العربي ص70.
[6]- سير أعلام النبلاء 20/532.
[7]- سير أعلام النبلاء 20/537.
[8]- سير أعلام النبلاء 20/573.
[9]- ديوان المتنبي 1/65.
[10]- الكامل 9/126.
[11]- سير أعلام النبلاء 20/533.
[12]- البداية والنهاية 12/302.
[13]- البداية والنهاية 12/299.
[14]- البداية والنهاية 12/302_ 303.
[15]- انظر سير أعلام النبلاء 20/533_ 534.
[16]- الكامل 9/125.
[17]- سير أعلام النبلاء 20/533.
[18]- انظر سير أعلام النبلاء 20/533.
محمد بن إبراهيم الحمد
دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم
- التصنيف: