أسباب هلاك الأمم - بناء المجتمع (3)

منذ 2014-12-07

عناصر الخطبة: 1- أهمية المرجعية الموحدة للأمة الواحدة. 2- أسباب هلاك الأمم في ضوء القرآن والسنة.

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا بربوبيته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وآل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

من الضروري أن يكون للمسلمين مرجعية واحدة ترتكز على صحة المعتقد وسلامة المنهج:

أيها الإخوة الكرام: في زحمة الأحداث، وتسارع المتغيرات، وفي خضم تداعيات النوازل والمستجدات، وكثرة الأطروحات والتحليلات، يلحظ المتأمل الغيور غيابًا أو تغييبًا للرؤية الشرعية، والنظر في فقه السنن الكونية، حتى حصل من جرّاء ذلك زلل أقدام، وخطل بالأقلام، وضلال في الأفهام، وتشويش وحيرة عند كثير من أهل الإسلام، ما يؤكد أهمية المرجعية الموحدة للأمة الواحدة، التي ينبغي أن ترتكز في تحقيق أهدافها على صحة المعتقد، وسلامة المنهج، والعناية بمصالح الأمة الكبرى ومقاصد الشريعة العظمى، باعتدال في الرؤى، وتوازن في النظر، وأسلوبٍ عالٍ في الطرح والحوار، قال تعالى هذه الآية تؤكد ضرورة أن يكون للمسلمين مرجعية واحدة: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء من الآية:83].

أية قضية خلافية، أية قضية تثير جدلًا، أية قضية تثير نزاعًا ينبغي أن ترد إلى القرآن الكريم والسنة، هذه الآية أيها الإخوة، تشير إلى المرجعية الواحدة للأمة الواحدة، وهذه الأحداث التي هزت العالَم ألا تنتظمها قوانين؟! هذه الاجتياحات، هذه الحروب، هذه الزلازل، هذه البراكين، هذه الأزمة العالمية النقدية، هذه الأحداث الكبرى التي زلزلت الأرض ألا تنتظمها قوانين؟! قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر من الآية:43].

قوانين، سنن، نواميس، تفسر بها كل هذه الأحداث: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة من الآية:14].

حينما نسي الناس منهج خالقهم دبّت بينهم العداوة والبغضاء، والأموال التي تنفق على الأسلحة تفوق حدّ الخيال، ولو أنها أنفقت على إعمار الأرض ما بقي إنسان جائع، ولا طفل مريض، ولا إنسان معذب.

أيها الإخوة الكرام: هناك أمم تهلك، ولست متشائمًا، والأمة العربية هلكت الآن، لا هلاك استئصال ولكن هلاك ضعف، أليس كذلك؟!

ما هي أسباب هلاك الأمم في ضوء القرآن والسنة؟! من أبرز أسباب هلاك الأمم كثرة الفساد، وكثرة الخبث في الأرض؛ قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].

أية أمة مهما قويت حينما يكثر فيها الخبث تستحق الهلاك؛ من خلال القرآن والسنة فقط ما هي أسباب هلاك الأمم؟! قال علماء التفسير: أمرنا مترفيها بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوا به، ففسقوا وخرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه، وكذبوا رسله، فحق عليها القول، أي وجب عليها الوعيد، فدمرناها تدميرًا، أكلت أكلًا، ضربت ضربًا، هذا مفعول مطلق مصدر مؤكد لفعله: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.

مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع، وأسند الفسق إلى قوم هم المترفون، فما تفسير ذلك؟! {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا}، على جميع أفراد الأمة، {الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.

التفسير الأول أن غير المترفين تبعوا المترفين، جعلوهم قدوة لهم، رضوا بأعمالهم، أكبروا أفعالهم، لذلك يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} [الأحزاب:67].

والجواب الثاني: أن بعضهم إن عصى الله، وبغى، وطغى، ولم ينكر عليه أحد هذه المعصية، وهذا الفسق والفجور، فكأن سكوت الناس عن فسق الكبراء ذنب يستحقون عليه العقاب، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال من الآية:25]، وكما جاء في الحديث الصحيح من حديث أم المؤمنين زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ»، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟! قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» (متفق عليه عن أم المؤمنين زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا).

في بعض الآثار: أن الله أرسل الملائكة ليهلك بلدة، قالوا: يا رب: إن فيها صالحًا فيها رجل صالح، قال: به فابدؤوا، لِمَ يا رب؟! قال: لأن وجهه لم يكن يتمعر إذا رأى منكرًا.

والآن تأتي ابنة أخيك، وترتدي ثيابًا فاضحة، فتثني عليها، وعلى صحتها ودراستها، ولا يخطر في بالك أن توجه لها ملاحظة على هذه الثياب الفاضحة.

أيها الإخوة الكرام: أول أسباب هلاك الأمم كثرة الفساد في الأرض، وكثرة الخبث، وأية أمة مهما قويت حينما يكثر فيها الخبث تستحق الهلاك، هؤلاء الذين وصلوا إلى الأندلس وفتحوها، ووصلوا إلى مشارف باريس كيف أهلكهم الله؟! حينما غرقوا في الخمور وفي القيان والغناء والجواري والغلمان، أخرجوا منها.

سببٌ آخر من أسباب هلاك الأمم، هذا السبب قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

الكفر كفر النعم، ورد في الأثر القدسي: «إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشر أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها» (رواه البيهقي والحاكم عن معاذ، والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه).

السبب الثاني: عدم شكر النعم، نحن في هذا البلد الطيب نتمتع بالأمن، هذه نعمة يجب أن تشكروا الله عليها، نتمتع بالتواصل الأسري، نتمتع بدروس العلم بالمساجد، هذه نعم لا يعرفها إلا من فقدها في بلاد أخرى، في بلاد أخرى لو دخل الإنسان المسجد مرة واحدة أمامه مساءلة.

أيها الإخوة: من أسباب هلاك الأمم ظهور النقص، والتطفيف في الميزان، تحت هذه الكلمة يدخل كل أنواع الغش، بضاعة من مصدر معين أوهمت الشاري بأنها من مصدر معين، غش بالوزن، بالطول، بالمكيال، بالمواصفات، أنواع الغش والله لا تعد ولا تحصى، تطفيف الكيل والميزان، منع حق الله، وحق عباده، ونقض العهود والمواثيق، والإعراض عن أحكام الله تعالى..

هذه الأسباب كلها مجتمعة في حديثٍ واحد: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ: خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا مرض الإيدز، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» من أجل كرة. (رواه ابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما).

جعل الله بأسهم بينهم من أجل كرة، هذه أمة!

تنافسنا على الدنيا وتركنا استثمار أراضٍ صالحة للزراعة.

ومن أسباب هلاك الأمم: التنافس في الدنيا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (متفق عليه عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ).

«اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» (مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما).

هذا البلد الطيب مساحته مائة وخمسة وثمانون ألف كيلو متر مربع، ربع هذه المساحة صالحة للزراعة فقط، المزروع منها ربع الربع، واحد على ستة عشر من مائة وخمسة وثمانين ألفًا، ومع ذلك من فضل الله عندنا ستة ملايين طن من القمح لكل سنة، في الزيتون ثاني دولة في العالم، وفي الحمضيات سبعمائة ألف طن، واحد على ستة عشر من مائة وخمسة وثمانين ألف كيلو متر مربع.

السودان: الأرض الصالحة للزراعة في السودان تقدر باثنين ونصف مليون كيلو متر، ونهر النيل يصب أربعة أخماسه في البحر، أرض طيبة ومياه غزيرة، السودان يحتاج إلى بنية تحتية ثمانية مليارات، حتى تطعم العالم العربي بأكمله، لا أحد يدفع، وثلاثة آلاف مليار مودعة في بنوك أمريكا للمسلمين، أيعقل هذا؟! أين المسلمون؟!

من أسباب هلاك الأمم التعامل بالربا، وانتشار الزنا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» (متفق عليه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهم).

هذا النظام العالمي المالي العملاق كيف انهار؟! بالربا والمتاجرة بالزنا، شراء الديون، وبيع الديون، والربا، والزنا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:275-276].

من أسباب هلاك الأمم: تقصير الدعاة في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقصير الأمراء في إزالة المنكرات: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ لَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ» (رواه أبو داود عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ).

أي الأكثرية مسلمة، والذين يجاهرون بالمنكرات قلة، والأكثرية ساكتة، هذه مشكلة كبيرة.

أيها الإخوة الكرام: "كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر؟!"، قالوا: أوَ كائن ذلك يا رسول الله؟! قال: "وأشد منه سيكون"، قالوا: وما أشد منه؟! قال: "كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟!". بالعالم كله الآن العمل الخيري متهم، العمل الخيري إطعام الجياع متهم. ابن أبي الدنيا وأبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أمامة بسندٍ فيه ضعف.

"كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟!"، قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟! قال: "وأشد منه سيكون". ابن أبي الدنيا وأبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أمامة بسندٍ فيه ضعف.

"كيف بكم إذا أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا؟!".

الذي يكسب المال الحرام شاطر، والبنت المتفلتة سبور، والذي ينافق لكل الناس عنده ذكاء اجتماعي، فكل الموبقات والأعمال الخسيسة لها أسماء حديثة، والذي لا يهمه طاعة الله مرن، هذا مرن، وهذا عنده ذكاء اجتماعي، وهذا عنده رؤيا بعيدة، وهذا عنده موقف حضاري، هذه كلها كلمات تغطي بها النفوس الشاردة أعمال المنحرفين.

الإمام الغزالي يقول: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو الذي بعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، لقد كان، فـ{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.

هذا في عصر الإمام الغزالي، فكيف في هذا العصر؟!

من أسباب هلاك الأمم: ترك الجهاد، والإخلاد إلى الأرض؛ عقب سقوط بغداد تمّ أربعة وستون مليون اتصال من أجل وصف بعض الفتيات اللواتي يبرزن عرايا في هذه الفضائيات، أربعة وستون مليون اتصال خلال عشرين يومًا بعد سقوط بغداد! أين الأمة؟!

قال بعضهم: هذه ليست أمة اقرأ، هذه أمة ارقص، وليست أمة محمد، إنها أمة مهند، الذي جاء من بلاده إلى بلاد أخرى وقد استقبله خمسة وثلاثون ألف ممثل فقط، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (رواه أبو داود، وأحمد؛ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما).

من أسباب هلاك الأمم: مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور من الآية:63]، وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال من الآية:33].

أيها الإخوة الكرام: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (رواه أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ).

الذين يرتادون الفنادق في أول السنة الميلادية أضعاف غير المسلمين، الذين يرتادون الفنادق في أول السنة مع زوجته الكاسية العارية، ويرقص في الفندق، ويشرب الخمر، أضعاف المسلمين الذين يرتادون الفنادق من غير المسلمين، حضارة، رقي!

من أسباب هلاك الأمم: الغلو في الدين: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» (رواه أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما).

أيها الإخوة الكرام: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24].

على كل مسلم أن يؤثر خدمة أمته على حظوظه من الدنيا، نحتاج للبناء والعدل واستصلاح أراضينا.

أيها الإخوة: الوضع مؤلم جدًا، فينبغي على المسلمين من خلال الأمر القرآني أن يعدوا ما يستطيعون من قوة بمفهوم القوة الموسَّع، أسرنا ينبغي أن تتماسك، أمهاتنا ينبغي لهن أن يتفرغن لتربية أولادهن، في بلاد إسلامية كثيرة حينما تسافر الأم تودع من قبل أولادها وداعًا جافًا، أما إذا سافرت الخادمة يبكي الأولاد؛ لأن الخادمة تربي الأولاد، تطعمهم، تكسوهم، تدرسهم أحيانًا.

أمهاتنا ينبغي لهن أن يتفرغن لتربية أولادهن، طالبنا ينبغي أن يتفوق، معلمنا ينبغي أن يحمل رسالة يسعى لتحقيقها، عاملنا ينبغي أن يتقن، فلاحنا ينبغي أن يرتبط بأرضه، موظفنا ينبغي أن يتفانى في خدمة المواطنين، وقاضينا ينبغي أن يعدل، وعالمنا ينبغي أن يؤثر خدمة أمته على حظوظه من الدنيا، داعيتنا ينبغي أن ينصح لا أن يمدح، ضابطنا ينبغي له أن يوقن أن المعركة مع العدو قادمة لا محالة، وأن حديث العدو عن السلام مراوغة، وكذب، وكسب للوقت، ليس غير، ثرواتنا ينبغي أن تستخرج، مصانعنا ينبغي أن تطور، أرضنا ينبغي أن تستصلح، ومياهنا ينبغي أن يرشَّد استهلاكها، وهذا لا يكون إلا بإيمان بالله يحملنا على طاعته، وإيمان باليوم الآخر يحملنا على ألا نؤذي بعضنا.

أيها الإخوة: هذا كله يحتاج إلى إيمان عميق، إلى مفهوم للجهاد البنائي.

أما ورقات العمل التي ينبغي أن نفعلها كي ننجو مما نحن فيه، فهناك جهاد نفسي، جهاد النفس والهوى، وجهاد دعوي: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان من الآية:52].

وجهاد بنائي أن تبني أمتك، أن تقوي أمتك، هذا بناء جهادي، لكن يحتاج أن ينتمي الإنسان إلى أمته، ثم إن هناك جهادًا قتاليًا.

أيها الإخوة: يمكن أن يكون الحل في هذه النقاط الأربع، النقطة الأولى تجديد الإيمان، جددوا إيمانكم، أمتنا لم تنبذ الإيمان كليةً لكن إيمانها ضعف، هذا الإيمان الضعيف ينبغي أن يجدد، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الإيمان ليخلق يضعف أو يهترئ، في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (رواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما).

شيء آخر؛ يجب أن يرافق هذا العلم عمل، العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، العلم في الإسلام ليس هدفًا لذاته، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في الدعاء الشريف: «اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن الرجاء إلا فيما عندك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ونعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن أذن لا تسمع». «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» (متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه).

النقطة الثالثة: الأخوة الصحيحة، هذا الشقاق، هذه العداوة والبغضاء ليست من شأن المسلمين، علامة إيمانك أن تحب أخاك المؤمن، وما لم تنتمِ إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمنًا: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام من الآية:159]، {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} [الروم من الآيتين:31-32]، لذلك: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إنما المؤمنون إخوة".

ما قال: جماعة فلان إخوة، إن عامة المؤمنين إخوة، وما لم يكن انتماؤك لمجموع المؤمنين فلست مؤمنًا، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (متفق عليه عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه).

النقطة الرابعة الدقيقة: تحويل كل ما نعلم إلى عمل؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].

الله سبحانه وتعالى أفعاله التي تبدو مؤلمة هي في حقيقتها تنطوي على خير لهذه الأمة.

أيها الإخوة الكرام: يؤكد هذا قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5-6].

أيها الإخوة الكرام: هذه بعض ورقات العمل التي ينبغي أن نفعلها كي ننجو مما نحن فيه، والله الموفق.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة الكرام: أحفظ بيتًا من الشعر من ثلاثين عامًا، بيت من قصيدة طويلة، لكن هذا البيت مطلع هذه القصيدة، يقول الشاعر:

أكاد أومن من شك ومن عجب *** هذي الملايين ليست أمة العرب

هذه الملايين التي تركت دينها، وتركت حلّ مشكلاتها، الفقر، والبطالة، والأمية، والتنازع والتجزئة، هذه المشكلات الكبرى التي هدت كيانها تركتها وتعلقت بالكرة فقط.

هذا هو الأقصى يُهوَّد جهرَة *** ولبؤسه تتحدث الأخبار
المال مقتسم والعِرض مُنتهَك *** والقَدْر محتقر والدم طوفان
أين الملايين من أموال أمتنا *** فما لها في مجال الفعل برهان

هل عندكم نبأ مما يعد لكم *** أم خدَّر القوم لعَّابٌ وفنَّان
ذل وضعف وتمثيل وملحمة *** ما ذاقها في ميادين الدهر إنسان
الخمر تُشرب والأوتار صاخبة *** وللميوعة فينا القدر والشان

أما لنا في كتاب الله من عظة *** فقد دعانا لنصر الحق قرآن
أما لنا في طلوع الفجر من أمل *** أما تبدد عنا الشك والران
يا أمتي مزّقي الأغلال وانتفضي *** فالمجد لا يمتطيه اليوم وسنان

عودي إلى الله فالأبواب مشرعة *** وعزة الله للأواب عنوان
واستبسلي فشعاع الفجر منتشر *** وإن تجاهل نور الفجر عميان

أما يكفيك أيها الأخ الكريم!

أما يكفيك بل يخزيك هذا اللهو واللعبُ؟!
وقالوا: كلنا عربٌ..
شعارات مفرغة فأين دعاتها ذهبوا؟!
شعارات قد اتَّجروا بها دهرًا..
أما تعبوا؟!

وكم رقصت حناجرهم!!
فما أغنت حناجرهم ولا الخطبُ!
فلا تأبه بما خطبوا..
ولا تأبه بما شجبوا..

متى يا أيها الجنديُّ تروي للصدور ظمًا؟!
متى نلقاك في الأقصى لدين الله منتقمًا؟!
متى يا أيها الإعلام من غضب تبث دمًا؟!
عقول الجيل قد سقمت فلم تترك لها قيمًا ولا هممًا!

أخي في الله قد فتكت بنا عللُ..
ولكن صرخة التكبير تشفي هذه العللَ.

شيءٌ مؤلم جدًا، أيها الإخوة الكرام، والله إن عيني لتذرف بالدمع ومن حقها، وقلبي يتمزق ومن حقه، لما جرى في الأيام الأخيرة بين مصر والجزائر، من أجل كرة القدم، أمة تمزق روابطها لعبة، اسمها لعبة، وليست من الضروريات، والرياضة الآن بواقعها الحالي أفيون الشعوب، والفن الهابط أفيون الشعوب، والإعلام المؤجج أفيون الشعوب، وليس الدين هو أفيون الشعوب.

أيها الإخوة: أرى أن الرياضة الفردية الآن أفضل ألف مرة من لعبة الكرة؛ لأن الألعاب الفردية يستفيد بها الفرد، لكن ما الفائدة التي يجنيها الناس من هذه اللعبة التي تفرقهم بل حملتهم على أن يتقاتلوا؟!

أيها الإخوة الكرام: نحتاج إلى وعي كبير، نحتاج إلى مسلّمات، نحتاج إلى ثوابت، نحتاج إلى أهداف نبيلة، نحتاج إلى إنسان واعٍ، هذه كلها والله أخبار مؤلمة جدًا، شيء يندى له الجبين، والله أخبارنا في العالم يتندرون بها.

 

محمد راتب النابلسي

المصدر: موقع: منبر الخطباء
المقال السابق
بناء المجتمع (2)