تونس.. لقد هرمنا وما جاءت اللحظة

منذ 2014-12-08

هل كان يظن أحمد الحفناوي، وعبارته الشهيرة تخرج من بين ضلوعه: "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" أن هرمه لم يشفع له ليلاقي تلك اللحظة حقاً، أو أنه بحاجة لعمر جديد تتحقق له هذه اللحظة التي عاش يتمناها؟! فلم يكن الحلم يتراءى للرجل، وفي قلبه رجالات حكم بورقيبة وبن علي، وقد استدار بهم الزمان فسرقوا الحلم والمستقبل القريب، بل كان يرى في الغد تونس تتصالح مع هويتها وتتخلص من فسادها ودولتها الاستبدادية العتيدة وتحقق استقلالها عن نفوذ "المستعمرين".

هل كان يظن أحمد الحفناوي، وعبارته الشهيرة تخرج من بين ضلوعه: "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" أن هرمه لم يشفع له ليلاقي تلك اللحظة حقاً، أو أنه بحاجة لعمر جديد تتحقق له هذه اللحظة التي عاش يتمناها؟! فلم يكن الحلم يتراءى للرجل، وفي قلبه رجالات حكم بورقيبة وبن علي، وقد استدار بهم الزمان فسرقوا الحلم والمستقبل القريب، بل كان يرى في الغد تونس تتصالح مع هويتها وتتخلص من فسادها ودولتها الاستبدادية العتيدة وتحقق استقلالها عن نفوذ "المستعمرين".
 
لعل الكثيرين سعداء بما انتهى إليه استحقاق انتخابي بالغ الأهمية، يحدد هوية الحكومة القادمة في تونس، ويرسم معالم السنوات القليلة القادمة؛ فظاهر ما تم من انتخابات برلمانية هو ممارسة ديمقراطية لم يَشْكُ فيها أي من تزوير واضح أو شراء أصوات أو ما نحوه بشكل واضح (أو صمتوا على تجاوزاتها)، وهنأ فيها القائد الحركي للقوة الثانية، رئيس الحزب الفائز بالانتخابات، في إخراج "ديكوري" جيد، لكن هل ما جرى يمثل مقاربة لممارسة ديمقراطية حقيقية؟
 
قبل الإجابة، لننظر للنتائج من زاوية أخرى، ولتكن تلك التي تكشف عن رغبات ذاتية في تقويم النتائج وما أسفرت عنه؛ فمن السهل القول إن المتعاطفين مع حركة النهضة التي خسرت كثير من مقاعد المجلس التأسيسي الذي خاضت انتخاباته قبل ثلاث سنوات، سيلجؤون إلى تبرير هذا التراجع بأنه ناجم عن "ممارسة غير ديمقراطية"، لكن مسحاً استطلاعياً يمكن أن تجريه أي جهة مستقلة تخضع المتعاطفين مع النهضة ليس في تونس وحدها، بل في دوائر إقليمية ودولية سيفضي ـ فيما أعتقد أو حتى أزعم ـ إلى تلمس شعور مَرَضي لافت للنظر لدى هؤلاء، إذ سيتفاجأ الباحث بأن كثيرين ممن يحبون النهضة كانوا يخشون أن تؤدي تلك الانتخابات إلى فوز ساحق للنهضة على حساب الآخرين!
 
كيف!
لقد انقدح في يقين هؤلاء شك عميق بأن فوزاً كبيراً للنهضة سيكرر تجارب "ربيعية" مشابهة، وسيقتلع "البروتوكول الديمقراطي" المعمول به في تونس من جذوره، وبالتالي ترسخ لدى قطاعات جماهيرية إحساس بأن الحفاظ على التجربة "الديمقراطية" في تونس يتطلب عدم انفراد النهضة بالسلطة، وتقديمها تنازلات تلو أخرى لئلا تقع التجربة في المحذور!
 
بالعودة إلى الإجابة عن مقاربة ما حصل لممارسة ديمقراطية حقيقية، هل هذا التحسب والاحتياط حد الهرب من الفوز الكاسح والنجاح يعبر عن ديمقراطية يتم العمل سياسياً وفقها؟ بالطبع لا؛ فلقد أجبرت النهضة صاحبة الأغلبية في المجلس التأسيسي أن تتنازل عن رئاسة الحكومة في ترويكا ثلاثية يفترض أن تقودها، لكنها آثرت أن تسحب لاعبيها من الملعب السياسي آنفاً لتستمر المباراة! فهل تسمى هذه بالأصل مباراة؟!
 
النهضة ليست بدعاً من القوى الشقيقة لها في المنطقة؛ فأبسط بديهيات الديمقراطية وهي تحقيق مبدأ الاستحواذ على المناصب التنفيذية في حال تفرد الحزب بالأغلبية، أو قيادته لمعظمها حال قيادته لائتلاف تسقط في هذا السياق، ويصبح تنفيذ البرامج السياسية عبر الأحزاب والقوى السياسية بشكل متناغم ضرباً من ضروب "الاستحواذ" و"الهيمنة" ومحلاً للاتهام بـ"نهضنة الدولة" أو نحوها من المصطلحات المشابهة.
 
وبدلاً من أن ينطلق الحزب متطلعاً إلى الحصول على أغلبية بلا سقف، يصبح محصوراً بين محددي "الهزيمة" و"النصر المقبول" وفقاً لقواعد لعبة محلية وإقليمية ودولية لا تتماهى مع المبدأ التنافسي الحر، وتنسف الديمقراطية برمتها.
 
زعيم النهضة وهو مفكر عميق، أكد مراراً هذه المرة أن الديمقراطية والدولة أهم من النهضة، وهو بهذا يحاول أن يلتف بذكاء على فكرة الانقلاب على حركته حال تجاوزها لخطوط حمراء تفرضها دوائر متنفذة خارج صناديق الانتخابات.. خطته باختصار أن يرسخ القواعد الديمقراطية لأطول فترة زمنية حتى لو تنحت حركته تماماً عن المشهد أو ظهرت فيه لضبط قواعد لعبته فقط، وهو يدرك أنه متى ترسخت تلك القواعد فإن اقتلاعاً لها يصبح صعباً أو يتطلب ثمناً باهظاً مثلما هو الحال مع التجربة التركية التي أخفقت كل مساعي إجهاضها بسبب رسوخ بعض تلك القواعد هناك منذ عقود.
 
ولكن ما يدور بخلد د.الغنوشي زعيم الحركة، تفكر به الدوائر الإقليمية والدولية أيضاً، ولذا؛ فإن اللعب بسلاح ذي حدين كهذا خطير؛ فانكماش النهضة الاضطراري ـ حتى قبل أسباب الإخفاق الاعتيادية التي سيتم الحديث عنها تالياً ـ سيوفر لخصومها مجالاً رحباً لإقصائها من المشهد، بطريقة لا تبدو "استبدادية" وإنما مدعومة بقوة شعبية و"شرعية دستورية ديمقراطية" تغطي كل سياسات التهميش والإقصاء، وهذا ما ستسعى إليه القوى "الناجحة" في الانتخابات لاحقاً؛ فالزاوية التي حشر فيها الناخب بين منح النهضة صوته، واستجلاب انقلاب. أو منعها والحفاظ على "التجربة" قد وفر لرجال بورقيبة وبن علي الذين خرج الشعب التونسي لقطع نسلهما من السياسة مطية سهلة لـ"العودة للحكم".
 
على أن تعبير "العودة للحكم" بحد ذاته فيه نظر، وكذا مصطلح "الفلول" الذي استيسر النهضويون وغيرهم نعت حزب نداء تونس به؛ فمتى ذهب هؤلاء ليعودوا، أم في أي معركة انهزموا ليتبقى منهم "فلول"؟!
 
إن هذا يقود إلى شق آخر من الإجابة، وهو أنه كيف يتسنى لمراقب أن يصف ما جرى بأنه "ممارسة ديمقراطية" فيما "الجهات الضامنة" لنزاهة العملية برمتها هي عينها التي كانت تدير النظام الذي قامت عليه "الثورة"؛ فلا أحد رصد تغييراً جذرياً حدث في سلك القضاء أو الجيش أو الداخلية أو الإعلام عما كان إبان حكمي النظامين السابقين حتى يمكنه التعويل على انتخابات نزيهة، وإذا عول على نتائجها؛ فإنه يعلم يقيناً أن ما تفرزه ليس هو الفيصل، فلقد أمكن شطب نتائج انتخابات نزيهة كثيرة في العالم بانقلابات صريحة وبعضها دموي، واحتفظ "المجتمع الدولي" من بعدها بعلاقات دافئة مع الانقلابيين.. فكيف تسمى تلك "ممارسة ديمقراطية" وإن اتخذت الشكل ذاته في الديمقراطيات العريقة.. تلك التي لا تجد فيها كل هذه الأجهزة النافذة جداً هواها مع هذا الطرف أو ذاك، أو تجعل من نفسها "ضمانة" لأيديولوجية أو هوية أو رؤى خلاف ما تبوح به الصناديق.
 
هذه السطور السابقة ليست لإعفاء النهضة من أخطائها السياسية وهي كثيرة، ولا هي لتقديم مبررات لتراجعها الشعبي؛ فتلك مسائل اعتيادية مقبولة داخل سياج "الممارسة الديمقراطية الحقيقية"، وليست بالمناسبة مزعجة للمتعاطفين مع النهضة، فالأخطاء السياسية تجلدها الصناديق بقراراتها النافذة لا غيرها من "النظم" و"الدول" الموازية والعميقة.. فسيان أن يحصل هذا الحزب أو ذاك على ما تقدره الجماهير، لكن في أجواء صحية، وحين ينال الأغلبية؛ فإن أدوات الدولة كلها يتوجب أن تُستنهض لمعاونته لا مناهضته، وحيثما؛ فإن التقويم الحقيقي يكون في مناخ طبيعي.. وسواه مبتور سقيم.
 
ولو حصل الحزب الخاسر على 90% لتوجب أن يقال ما تقدم عن "ممارسة ديمقراطية عرجاء"، وإلا فإن من المحال أن يكون هدف ثورة شباب الياسمين، قائداً في عقده التاسع خدم بكل عصور الاستبداد.. وإلا فلم انتحر البوعزيزي أو انتحب الحفناوي.. وهرم وهرمنا معه؟!