معالجات العنف
إن مسئولية قادة الفكر والرأي وأئمة الفقه في العالم الإسلامي كبيرة، فهم الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، ولذا فلا يجوز اختطاف المشروع الإسلامي من أيديهم وهم أحياء، من خلال أعمال تدميرية يدفع ثمنها الجميع، ويستبد بإيقاعها ومحاولتها من لم تفوضه الأمة فيها.
إن المسؤولية الأولى في المعالجة تقع على عاتق الحكومات في البلاد العربية والإسلامية؛ حيث هي حكومات شمولية مهيمنة على مقاليد الأمور، ولديها إمكانات لا تتوفر للأفراد ولا للمؤسسات، ومن ذلك: الحل الأمني؛ فإن الشروع في الأعمال التدميرية أو التخطيط أو المباشرة تتطلب تعاملاً مكافئاً وسليماً يحفظ أمن الناس واستقرارهم، ويقضي على الفتنة في مهدها، وفي شأن مشابه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الخوارج: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)).
إن الحل الأمني هو حل عملي ضروري لتفكيك هذه المشاريع، والحيلولة دون وقوع الحريق العام، ولكن الحل الأمني وحده لا يكفي ولا يحقق الأهداف، فلا بدّ أن يكون جزءاً من منظومة حلول متكاملة، يؤدي فيها كل فرد واجبه بمسؤولية، دون تنازع أو اتكالية، وثمة عنوانات ملحة في هذا السياق منها:
أولاً: العدل؛ وقد ورد أن عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- لما شكا إليه بعض عماله بلدًا يكثر فيه الهرج والمرج والفتن قال: "حصنها بالعدل". فالعدل بين الناس في الحقوق والعطايا والوظائف والفرص، وفي جميع الحقوق الإنسانية ضرورة أمنية، والعدل أساس الملك.
ثانياً: فتح جانب الحوار، حتى لأولئك الذين عندهم أفكار غير مقبولة، فكيف تستطيع أن تصحح هذه الأفكار ما لم تستمع إليها، ثم تفندها، كما يجب إتاحة الفرصة لهؤلاء وغيرهم أنْ يعبروا عن أفكارهم، وأن يعبروا عنها في جو آمن، بعيدًا عن المخاوف الأمنية، ولا بدّ من وجود نوع من النقاش العلمي الموضوعي الذي يغير هذه الأفكار ويعالجها، ومن المهم ونحن نتكلم عن العدل والحوار الموضوعي ألا نستخدم نفس الآليات التي يستخدمها أصحاب العنف أحيانًا، فهم يستخدمون التكفير ويلجؤون إليه مع خصومهم، وبالتالي استحلال دمائهم وقتلهم دون تحرٍ أو تأنٍ أو تمييز من يستحق ومن لا يستحق، وبين ظرف وآخر.
وبعض الأطراف، وهم يقومون بدور المعالجة، يستخدمون أسلوب التكفير ذاته بقولهم: إن هؤلاء ليسوا بمسلمين مثلًا، وهذا بعيد عن العدل، وعلي - رضي الله عنه - لما سئل عن الخوارج: "أكفار هم"؟ قال: "من الكفر فروا". قيل: "أمنافقون"؟ قال: "المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلًا، وهؤلاء يذكرون الله بكرة وعشيا". قيل: "فما نقول"؟ قال: "إخواننا بغوا علينا".
ونحن نقول: هذه لغة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، الخليفة الراشدي الرابع العظيم، ومن الصعب على الكثير من الناس أن يصل إلى مستوى هذه اللغة، ولكن علينا ألا نفرح بالأصوات التي تدين العنف بعنف مضاد؛ لأنها- وإن كانت ترضينا في فترة من الفترات- سوف تصنع لنا في المستقبل مشكلة أخرى مشابهة.
ثالثاً: الإصلاح السياسي، بإدماج الناس في العملية السياسية بجدية وبتدرج جيد وسريع أيضًا، وبعيدًا عن الوعود المتراخية، وكذلك الإصلاح المالي بمنح الناس حقوقهم بقدر معتدل.
رابعاً: ما يتعلق بالخطاب الديني، فالخطاب الديني مسؤول، ويجب أن يكون شجاعًا في مواجهة الواقع وتشخيصه وإصلاحه، وشجاعًا في النقد، سواءً نقد هؤلاء الشباب وهذه الظاهرة، أو نقد الأطراف الأخرى بحكمة واتزان، ليكون خطاباً صادقاً ومؤثراً، وحافظاً للتوازن داخل التشكيلة الاجتماعية والعسكرية، ومحافظاً على نسيج المجتمع، وليس مجرد صدى لما تريده السياسة، أو صدى لما يريده هؤلاء الشباب، أو صدى لما يريده الغرب أو غير ذلك، وإنما يكون خطابًا مستقلًّا، ولكي يؤدي الخطاب الديني دوره فلا بدّ أن تكون لديه مصداقية، أما إذا تم توظيف الخطاب الديني من خارجه فإنه يفقد ثقة الناس به، وبالتالي يغرد خارج السرب، ويصبح بعيدًا عن التأثير.
نحن بحاجة إلى خطاب قريب من نفوس الناس، وموثق بنص شرعي، من مهمته أن يضبط النصوص الشرعية ويوضحها بشكل يزيل اللبس عنها، فعندما يختلف الشباب مثلًا حول حديث: ((أَخْرِجُوا المُشرِكِينَ مِن جَزيرَةِ العَرَبِ))، تأتي مسؤولية الخطاب الديني في أن يوضح هذا النص النبوي، ويشرحه بلغة علمية ناضجة متزنة، وما أكثر المعلومات الضرورية التي يمكن أن تقال هنا عن الحديث، ومن المخاطب والمطالب بالإخراج؟ وما معنى الإخراج؟ ومن هم المشركون هنا؟ الأفراد؟ أم المجموعات؟ ولماذا لم يخرجهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وما هي جزيرة العرب؟ والخطاب الديني مطلوب منه أن يتحدث عن المصلحة، وعلاقتها بالنص الشرعي، وكيف يمكن معرفة المصلحة، فضلًا عن معايير الصواب والخطأ، وكيف يعرف الناس الخطأ والصواب في الأفعال والأقوال والتصرفات وغيرها، فالخطاب الديني بحاجة إلى أن يُكَوِّن نفسه ليقوم بهذه المهمة الصحيحة.
خامساً: الجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي هي واقع -شئنا أم أبينا، أعلنت أم أخفيت- فهي موجودة، ففي مصر مثلًا جماعة الإخوان ليس لها ترخيص رسمي، لكن يعترف الجميع بأنها من أوسع الجماعات انتشارًا وتأثيرًا، فضلاً عن جماعات في كل بلد لم تحصل على اعتراف بوجودها، لا رسمياً ولا عملياً، وصارت تعمل بعيداً عن الأضواء، والمجتمع، بعيداً عن التصحيح والتصويب والإنضاج، وعن الشمس التي تبعث الدفء والعافية وتقتل الميكروبات؛ لذا هناك حاجة ماسة إلى الحوار معها، والاستماع إليها، وأعتقد أن الجماعات الإسلامية الناضجة الرشيدة على مستوى أن تحاور وأن تتفهم وأن تصل إلى كلمة سواء، بحيث يكون جهدها مضافًا إلى جهد غيرها في بناء المجتمعات الإسلامية، وإصلاح نفسها وغيرها، مع تشجيعها على المشاركة والاندماج في الحياة العامة، فلا بدّ أن تكون هي مطمئنة، وأن تبعث للآخرين برسائل التطمين!
سادساً: هناك تعاطف شعبي أحيانًا مع بعض الأحداث التي تقع، هناك تعاطف مؤقت ينتهي في ساعته، أو يكون تعبيرًا عن ظرف شخصي يعيشه الإنسان، المشكلة أن هذا التعاطف ربما يجد أسبابًا تزيد من قوته وبقائه أو تحوله إلى فعل، ونحن مثلًا في السعودية واجهنا قبل سنوات طويلة نوعًا من الانشقاق الداخلي الذي تمثل في أحداث الحرم، ونواجه الآن نوعًا جديدًا من العنف، والله أعلم ماذا يمكن أن نواجه في المستقبل، وما الصيغة التي يمكن أن تقع، فلا بدّ إذًا أن يكون ثمة استعداد لمشكلة قد نواجهها بعد عشر سنوات، ولا تكون مهمتنا مؤقتة فقط، بل علينا أن نسعى جادين إلى بحث صادق عن جذور المشكلة، وكيفية المعالجة وإزالة الأسباب.
سابعاً: المسؤولية الفردية هي أساس المحاسبة والمساءلة في الآخرة، ولذا يجب أن يضطلع الفرد بدوره تجاه نفسه؛ حتى لا يكون جزءاً من المشكلة، فكم من إنسان قد يتسرع بتعليق على موقف أو حدث يكون فتنة لأقوام، وكما قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: "تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا".
إنه لا يخلق بامرئ أن يحول احترامه الخاص -ولو كان مفهوماً- إلى موقف اللامبالاة، فضلاً عن الاغتباط، فالفرد أمام أعمال تدميرية، وليس أمام مشاريع صادقة واعدة تتعلق بها آمال، أو تنجز بها أعمال.
والأمر يتطلب مصارحة ووضوحاً في تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، فالبغي والعدوان والقتل والقطيعة والعقوق كلها رذائل، لا يجوز أن يمنعنا من إدانتها مانع، وإدانتها ليس برنامجاً سياسياً لحزب، ولا لغة رسمية أو غير رسمية، بل هي ديانة لخالق الإنسان الذي بناه وشيده وجعل هدم هذا البناء جريمة شنيعة، حتى قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء).
وتدمير ممتلكات البلد التي هي ملك لأفراده عمل مرذول لا يجوز أن يتردد في شجبه، والعملية هنا ليست موقفاً إعلامياً عابراً يتنافس فيه المتحدثون في المزيد من ألفاظ الإدانة، ثم يوقف الأمر، كلا. العملية هي فعل تراكمي استراتيجي يندمج فيه الأب مع أسرته، والمعلم مع طلابه، والشاب مع زملائه، ومدرس الحلقة، ومشرف المركز، وخطيب الجامع، وإمام المسجد، والداعية والفقيه والمفتي والشيخ والقائد والمفكر والكاتب.
ليس من ضرورة إنكار هذا الفعل ألا يتحدث المرء عنه إلا وقرنه بتحفظات واستثناءات واستدراكات، وكأنه يتكلم وعينه على مواقع إلكترونية يخشى أن يصيبه شررها، فما معنى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم؟
وحتى حين يقع الفعل خارج الإطار الإسلامي كما حدث في (11) سبتمبر، أو في بريطانيا، أو مدريد أو أي مكان، يجب أن يدان وبغير تردد ولا استحياء، فالله بعث رسوله لإحياء الناس ورحمتهم، وأي ضرر تلحقه هذه الأعمال العشوائية بالصورة الصافية للرسالة الربانية، وأين دور الدعوة والبلاغ والإقناع ومخاطبة العقول والعواطف وتحريك الوجدان؟
ومن الذي يمنح فئة أن تتحرك باسم الأمة، وتمارس عملاً باسم الجهاد، وقد وقع الإجماع على أن مثل هذه الأعمال العامة لا تكون إلا عن مشورة من المسلمين، بل نص على ذلك القرآن: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..)[النساء:83].
إن مسئولية قادة الفكر والرأي وأئمة الفقه في العالم الإسلامي كبيرة، فهم الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، ولذا فلا يجوز اختطاف المشروع الإسلامي من أيديهم وهم أحياء، من خلال أعمال تدميرية يدفع ثمنها الجميع، ويستبد بإيقاعها ومحاولتها من لم تفوضه الأمة فيها.
سلمان بن فهد العودة
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-
- التصنيف:
- المصدر: