اللطيف الخبير
إن الله تعالى هو الوحيد الخبير بحال كل شيء في هذا الكون، خبرةً أصيلة بدون التأثير على حالته مع علمه التام به لأنه لطيفٌ سبحانه، إن الله تعالى هو خالق الكون بأسره وهذا هو سر علمه به بدون الحاجة لقياسه، فهو خبير لأنه الخالق، ولطيف لأنه لا يحتاج إلى القياس أصلًا، حيث أنه عليمٌ تمام العلم بحال خلقه بداهةً.
قياس النظام يغير من حالته..!
إن المُطلع على علم الفيزياء لا يُخطئ حقيقةً هامةً، ألا وهي أن قياس أي نظام طبيعي لا بد وأن يعبث بحالته الأصلية، فتكون النتيجة أننا لا نستطيع أن نرى نتيجة قياس مطابقة تمامًا لواقع النظام الطبيعي قبل عملية القياس، وهنا تتجلى حقيقة أخرى مرتبطة بالأولى ألا وهي أنه كلما زادت رغبتنا في الحصول على نتائج أدق يزيد تلقائيًا العبث بحالة النظام، وبالتالي قلت دقة قياس النظام!
والعكس صحيح فكلما قل العبث بالنظام أثناء القياس قل تأثيرنا على حالة النظام الأصلية، ولكن قل معه تمكننا من القياس لهذه الحالة الأكثر قربًا للواقع، وهنا تأتي الحقيقة الأكثر إيلامًا في علم الفيزياء: أننا كبشر لا نستطيع أن نحصل على قياس دقيق أبدًا؛ لأننا لا نستطيع القياس بدون تغيير موضوع القياس وهو النظام الفيزيائي.
في عبارة موجزة:
كلما ترفقنا –تلطفنا- في التأثير على النظام أثناء قياسه كلما قلت خبرتنا بهذا النظام، فيستحيل علينا كبشر أن نتلطف مع الخبرة، فإما نتلطف ونفقد خبرة وإما لا نتلطف ونفقد أيضًا خبرة، كما أوضحنا أعلاه! فيا لضعفنا ويا لجهلنا المغروس في خِلقتنا!
أمثلة واقعية للتوضيح..
1- قياس موضوعًا كميًا في العالم الذري (الكمي): إن إلكترونًا قد يكون كمية تحركه الزاوي له اتجاهان متعاكسان متراكبان في نفس الوقت، فقد يكون اتجاه هذا الزخم لأعلى بنسبة (40%) واتجاهه لأسفل بنسبة (60%)، ولا يُعد هذا تناقضًا في عالم ميكانيكا الكم، فالإلكترون يمكن أن يلعب عدة أدوار على مسرح الكون في (آن واحد) طالما لم يقسه بشر! فإذا هَمَ بشرٌ بأن يعلم -يخبر- حالة الإلكترون وقع للإلكترون شيء نسميه: "انهيار الحالة الكمية"، ففي حالتنا مثلًا تنهار الحالة الكمية لكمية التحرك الزاوي عند القياس لتكون إما لأعلى أو لأسفل باحتمالية (40%) إلى (60%) بالترتيب.
ماذا حدث هنا؟
لقد تغيرت حالة الإلكترون عند القياس لأننا لم نتلطف في القياس! فعلمنا بحالته يؤثر عليها حتى لو لم نستخدم أي قدر مذكور من الطاقة في قياسنا! وبالتالي فإننا نقيس حالة غير التي كان عليها، أما إذا تلطفنا فإننا لن نقيس وبالتالي لن نحصل على أية معلومة! يا له من تناقض مكتوب علينا نحن البشر بين اللطف والخبرة!
2- مثال أقرب للعالم الماكروسكوبي: وهو مثال استخدام مقياس لفرق الجهد في دائرة كهربية.
إن آلة قياس فرق الجهد بين نقطتين في دائرة كهربية تحتاج إلى تيار وإن قل لكي يديرها، هذا التيار يعبث في حالة الدائرة المقاسة، وبالتالي فإنه لا بد إن أردنا من قياس فرق جهد بين نقطتين ألا تكون الكمية المُقاسة هي نفسها الكمية الحقيقية قبل القياس، فإذا تلطفنا في جهاز القياس وجعلناه لا يستهلك تياراً، كانت النتيجة أن يتوقف عن القياس ولم نستطع أن نختبر فرق الجهد المُراد قياسه!
يا له من مثال آخر يوضع عجزنا عن الخبرة بدون عبث بالمُختَبر، لأننا لن نكون لطفاء معه إذا أردنا فعلاً قياسه! أما لو كنا لطفاء فلن نتفاعل مع المُختبَر أصلًا، وبالتالي سنعجز أيضًا عن الخبرة بحالة المُختَبَر!
اللطيف الخبير..
اللطف في العمل هو الترفق فيه (مُختار الصحاح). يفاجئنا القرءان الكريم بهذه الآية التي تدفع من يتدبرها أن يخر ساجدًا لله اعترافًا بعظمته وقدرته على كل شيء، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
إن الله تعالى هو الوحيد الخبير بحال كل شيء في هذا الكون، خبرةً أصيلة بدون التأثير على حالته مع علمه التام به لأنه لطيفٌ سبحانه، إن الله تعالى هو خالق الكون بأسره وهذا هو سر علمه به بدون الحاجة لقياسه، فهو خبير لأنه الخالق، ولطيف لأنه لا يحتاج إلى القياس أصلًا، حيث أنه عليمٌ تمام العلم بحال خلقه بداهةً.
فسبحان الله اللطيف الخبير الذي تفرد بهاتين الصفتين مجتمعتين دونًا عن الوجود بأكمله.
والله أعلم.
أحمد كمال قاسم
كاتب إسلامي
- التصنيف: