تأصيل الردة و التكفير - (7) شيخُ الإسلام يَردُّ على المُشترطين الاستحلالَ في سبِّ اللهِ ورسولِه
اعتقاد حِلّ السَّب كُفرٌ سواء اقترن به وجودُ السَّب أو لم يقترن، فإذًا لا أثر للسَّب في التكفير وجودًا وعدمًا، وإنما المُؤثر هو الاعتقاد، وهو خلاف ما أجمع عليه العلماء.
قال شيخُ الإسلام رحمه الله: "وذَكر القاضي أبو يَعلَى عن الفقهاء؛ أن سابَّ النبيِّ عليه السلام إن كان مُستحلًّا كفَر، وإن لم يكن مُستحلًّ فَسق ولم يَكفر، وهذا موضعٌ لا بد من تحريره، ويجب أن يُعلم أن القولَ: بأن كُفرَ السَّاب في
نفس الأمر إنما هو لاستحلالِه السبَّ زلَّـةٌ مُنكرة، وهَفوةٌ عظيمة، ويَرحمُ اللهُ القاضي أبا يَعلى فقد ذَكر في غير مَوضعٍ ما يُناقض ما قالَه هنا..".
ثم ردَّ شيخ الإسلام على القائلين باشتراط الاستحلال، من وجوه:
"أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مُستحلًّا كَفر وإلا فلا ليس لها أصلٌ، وإنما نقلَها القاضي من كتاب بعض المتكلمين، الذين نقلوها عن الفقهاء، وقد حَكينا نصوص أئمة الفقهاء، وحكاية إجماعهم، فلا يَظن ظانٌّ أن في المسألة خلافًا ؛ يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد وإنما ذلك غلطٌ، لا يستطيع أحدٌ أن يَحكي عن واحدٍ من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل البتَّة.
*الوجه الثالث: أن اعتقاد حِلّ السَّب كُفرٌ سواء اقترن به وجودُ السَّب أو لم يقترن، فإذًا لا أثر للسَّب في التكفير وجودًا وعدمًا، وإنما المُؤثر هو الاعتقاد، وهو خلاف ما أجمع عليه العلماء.
*الوجه الرابع: أنه إذا كان المُكفِّر هو اعتقاد الحِلّ؛ فليس في السَّب ما يدلُّ، على أن السابَّ مُستحلٌّ، فيجب أن لا يُكفَّر، لاسيَّما إذا قال: "أنا أعتقد أن هذا حرام، وإنما أقول غيظًا وسفهًا، أو عبثًا أو لعبًا، كما قال المنافقون: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة من الآية:65]"، فإن قيل: لا يكونون كفارًا فهو خلاف نصّ القرآن، وإن قيل: يكونون كفارًا فهو تكفيرٌ بغير مُوجب إذا لم يُجعَل نفسُ السَّب مُكفِّرًا..
فإذا كان قد قال: "أنا أعتقد أن ذلك ذنبٌ ومعصية، وأنا أفعله"؛ فكيف يُكفَّر إن لم يكن ذلك كفرًا؟!
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة من الآية:66]، ولم يقل: قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب، فلم يُكذِّبهم في هذا العذر، كما كذَّبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يُوجب براءتَهم من الكفر لو كانوا صادقين، بل بيَّن أنهم كَفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب..
وإذا تبيَّن أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسِها كفرٌ، استحلَّها صاحبُها أو لم يستحلَّها؛ فالدليل على ذلك جميعُ ما قدَّمناه من الدليل على كُفر السَّاب، مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة من الآية:61]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب من الآية:57]، وقوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة من الآية:66].
وما ذكرناه من الأحاديث والآثار فإنما هو أدلةٌ بيِّنةٌ في أن نفسَ أذى الله ورسوله كفرٌ، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودًا وعدمًا..! بل في الحقيقة كلُّ ما دلَّ على أن السابَّ كافرٌ وأنه حلال الدَّم لكُفره فقد دلَّ على هذه المسألة، إذ لو كان الكفرُ المُبيح هو اعتقاد أن السبَّ حلالٌ لم يَجُز تكفيرُه وقتلُه، حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهورًا، تَثبت بمثله الاعتقاداتُ المُبيحة للدماء" (انظر الصارم المسلول).
قلتُ: فهذا كلامٌ قاطعٌ ماتعٌ مانعٌ، من شيخ الإسلام رحمه الله، وقد نَقل عليه إجماعَ السلف ومَن تَبعهم من الخلَف؛ أن نفسَ سبّ الرسول عليه السلام كفرٌ مُجرَّد، لا عُذر فيه بوجهٍ من الوجوه، لا بجهلٍ، ولا تأويلٍ، ولا استحلال، وفنَّد ردَّه وفصَّله لئلا تبقَى حُجَّةٌ لقائل ولا مُرجىء..
فهل يَعتبرُ بذا المُرجئةُ المُعاصرون في هذه المسألة وغيرها، والذين يُطلقُون الأعذارَ والمعاذير، هنا وهناك، ولا يُبالون بما أفسدُوا من دين المسلمين؛ بتفريطهِم وتَساهلِهم في تحقيق العلم والدِّين؟! كان اللهُ للإسلام والمسلمين.
أبو فهر المسلم
باحث شرعي و أحد طلاب الشيخ سليمان العلوان حفظه الله
- التصنيف: