طفّ الصّاع
السبيل إلى حياة كريمة تُحفظ فيها إنسانية الإنسان وكرامته، وتكفل له حرية الاعتقاد والرأي، أياً كان معتقده وجنسه لن تتحقق إلا بالقضاء على أهم روافد ومنابع الاستبداد.. حتى ولو تطلب الأمر ثورة كالتي قام به الفرنسيون بشعاراتها وإنجازاتها، من ألفِها إلى ياءها، لتنعم الخلائق بعدها بحياة تستطيع في ظلها أن تفئ إلى فِطّرة ربها التي فطرها عليها، والتي لا تستقيم حياة البشرية إلا في ظلها
كنت قد انتويت أن أجعل عنوان هذه المقالة (الرئيس مرسي يعيّن المسيح وزيراً للدفاع؟!)، غير أنني وجدت أن المقالة يمكن أن تأخذني إلى عناوين لمقالاتٍ أخرى من نوعها لا يتسع الزمان لها مثل (هل المسيح قاتل؟!)، و(هل ترقّى المسيح من مسيح أول إلى مشير؟!)، و(هل كان المسيح إخوانياً؟!)، وكل ما سبق وصفه من زور وبهتان لم نسمعه من ملحد من الملاحدة الجُدُد، أو فاقدٍ لعقله ممن رٌفع عنهم حرج التكليف بفقد العقل وانتفاء الأهلية..
وإنما سمعناه بآذننا وأبصرناه بعيوننا من كبار رجال الكنيسة القبطية في مصر، ومن بعض كبار ورموز الأساتذة والمؤيدين للانقلاب العسكري، وإليك النص الحرفي لكلام (الأنبا بولا) في وصفه لقائد الانقلاب العسكري (المشير عبد الفتاح السيسي) في زيارته للكاتدرائية الأرثوذكسية في مصر، والذي عينه سابقاً الرئيس (محمد مرسي) وزيراً للدفاع..
يقول الأنبا بولا ممثل الكنيسة المصرية في لجنة وضع الدستور: "وفجأة كما ظهر الملاك مبشّراً بميلاد المسيح، فجأة نرى المسيح وقد ظهر داخل الكنيسة يوم ميلاد المسيح"، ثم أردف الأنبا بولا قائلاً: "الآن يروا ما لم يروه في كل بقاع الأرض! الأقباط تخلّوا عن وقار العبادة ليهتفوا بنحبك يا سيسي" (انتهى كلامه).
وإليك النص الحرفي لما قاله الأنبا (مكاري يونان) في وصفه أيضًا للسيسي: "إحنا نعتبر اللي حصل عمل إلهي، وأنا قلت هنا على الهواء إن الرئيس السيسي مرسل من السماء، لأن عندنا نبوءة في سفر أشعيا بتقول يعني المصريين في ضيقتهم أُرسل لهم محامياً ومخلصاً! إنْ كان الكلام ده تمّ، أو هايتمّ، أو هو ده ينطبق على السيسي يبقى بركة، قلت ده مرسل من السماء، العمل اللي تمّ عمل مش بيد بشرية، لأن مصر كانت قاب قوسين أو أدنى من مصيبة أو كارثة، ربنا هو اللي نجّا مصر، لأن مصر لها وعد بالبركة في الكتاب المقدس مبارك شعب مصر، فمصر تختلف عن أي بقعة في العالم" (انتهى كلامه).
وللحق والإنصاف فإن ابتعاث وإرسال السيسي من السماء لم يكن أول من أذن به الأنبا مكاري، وإنما فضل هذه البعثة السيساوية يعود إلى مبتعث الرسل أولي العزم، طفرة زمانه ووحيد عصره الدكتور (سعد الدين الهلالي) وإليك النص الحرفي لميثاق بعثته للرسولين (عبد الفتاح السيسي، ومحمد إبراهيم) حيث قال حين وقف خطيباً بين أيديهم: "ويُقيّض الله للمصريين من يقف في مواجهتهم -مواجهة الإخوان المسلمين- لكي يحقق أن يكون الدين لله كما أمر الله، فابتعث الله أيضاً رجلين كما ابتعث وأرسل من قبل رجلين موسى وهارون، أرسل رجلين وابتعث رجلين، ما كان لأحد من المصريين أن يتخيل أن هؤلاء من رُسل الله عز وجلّ، وما يعلم جنود ربك إلا هو، خرج السيسي ومحمد إبراهيم لتحقيق قول الله عز وجلّ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" (انتهى كلامه).
عدت بذاكرتي إلى الوراء قليلاً وإلى ما قالته الفنانة المصرية (بوسي) في مدحها ووصفها للجنرال السيسي حيث قالت: "إن الذي يقول عن سيدنا محمد أشرف الخلق لم ير الفريق السيسي"! وما قالته نظيرتها الكاتبة (غادة شريف) في وصفها للسيسي ومدحها له حيث قالت: "بصراحة هو مش محتاج يدعو أو يأمر يكفيه أن يغمز بعينه بس أو حتى يبربش، سيجدنا جميعاً نلبي النداء، هذا رجل يعشقه المصريون، ولو عايز يقفّل الأربع زوجات إحنا تحت الطلب، ولو عايزنا ملك اليمين ما نغلاش عليه والله، أهو هنا بقى نطبق الشريعة، مش تجيبلى راجل جاهل بذقن معفّرة طولها مترين وتقولي نطبق الشريعة" (انتهى كلامها).
وراجعت ما قاله الكاتب (أكرم السعدني) في سعدنياته في جريدة أخبار اليوم المصرية في مقالته بعنوان (السيسي والمتفلفسون)! وهو يمدح السيسي فيقول: "ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار فكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار"!
كما إنني تذكرت ما انفردت به الكاتبة الصحفية (فاطمة ناعوت) الداعمة للانقلاب وللسيسي، في وصفها لسيدنا إبراهيم عليه السلام ولشعيرة ونُسك الأُضحية، واصفة ما يفعله المسلمون في عيدهم بأنه: "مذبحة سنوية تتكرر بسبب كابوس باغت أحدَ الصالحين بشأن ولده الصالح، ورغم أن الكابوس مرّ بسلام على الرجل الصالح وولده وآله، إلا أن كائنات لا حول لها ولا قوة تدفع كل عام أرواحها وتُنحر أعناقها وتُهرق دماؤها دون جريرة ولا ذنب ثمنًا لهذا الكابوس القدسي"!
وحتى تكتمل الصورة فهماً واستيعاباً لدينا، علينا أن نعود بالذاكرة للوراء قليلاً، قبل العهد الهلالي والبعثة الكاتدرائية للسيسي، وقبل توسّده للخلافة العباسية بما له فيها من محظيات، وما يقال فيه من شعر يؤلّهه من نفاق الشعراء، على شاكلة ما حدث من تيار الزندقة والانحراف والمجون في العصر العباسي، الذي بلغ درجة عالية بما أدّى إلى بروز شعر الزهد وظاهرة الزهد بشكل منافس ومقاوم لهذا الاتجاه، نرجع بالذاكرة إلى ما كان يوجّهه هؤلاء الذائبون عشقاً في السيسي بأنفسهم وذواتهم من سباب وقذف وشتائم إلى الرئيس محمد مرسي، حين عيّن -الإخواني- عبد الفتاح السيسي ليأخّون به الجيش ومؤسسات الدولة الهامة، ثم إذا بالإخواني الإرهابي يتحول إلى موسى وهارون، والمسيح والمرسل من السماء محامياً ومخلصاً لشعب مصر.
في ضوء ما ذكرته لك من أمثلة لم يعد لديّ من شك في حقيقتين باتتا تشكلان خطراً يستلزم استنهاض الهمم وإعلان التعبئة الفكرية العامة لدينا وهما:
أولاً: أن المبالغة والغلو الذي يمارسه رجال الدين المسيحي بوعي أو بدون وعي سبب رئيس في انتشار ظاهرة الإلحاد والتمرد على الأديان.
ثانياً: أن ما يمارسه الموالون للأنظمة الاستبدادية من المثقفين والإعلاميين والمتخصصين في الدين الإسلامي من مبالغة وغلو وتضليل ونفاق، هو سبب رئيس في انتشار الفكر الإرهابي المنحرف عن الوسطية والحنيفية السمحاء.
وإذا كان ذلك كذلك، فقد امتهد السبيل إلى ما بات معلوماً من الواقع بالضرورة، أن السبيل إلى حياة كريمة تُحفظ فيها إنسانية الإنسان وكرامته، وتكفل له حرية الاعتقاد والرأي، أياً كان معتقده وجنسه لن تتحقق إلا بالقضاء على أهم روافد ومنابع الاستبداد، المتمثل في الحقيقتين سالفتي الذكر، حتى ولو تطلب الأمر ثورة كالتي قام به الفرنسيون بشعاراتها وإنجازاتها، من ألفِها إلى ياءها، لتنعم الخلائق بعدها بحياة تستطيع في ظلها أن تفئ إلى فِطّرة ربها التي فطرها عليها، والتي لا تستقيم حياة البشرية إلا في ظلها: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
حسن الخليفة عثمان
كاتب إسلامي
- التصنيف: