إلا المجاهرون
والمؤمن الستير الحيي يسبل الرحمن عليه ستره، ويرخي عليه كنفه، ثم يقرره بذنوبه، أتذكر ذنب كذا وذنب كذا؟ وهو يعترف ويقول: نعم يا رب، فيقول له تبارك وتعالى: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم، ومن عجز عن كتمان سر نفسه، فهو عن سر غيره أعجز
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد كَثُر في هذا الزمان المجاهرة بالمعاصي، وتعددت صور ذلك وتنوعت، وقد تجلى ذلك في صور عديدة فذاك يدعو إلى وحدة الأديان ويصحح عقائد الكفار ويجيز الاحتفال بأعيادهم، وتلك المرأة تخرج متبرجة ومتعطرة ومتزينة، وأخريات يخلون بالرجال الأجانب وبالبائعين في المحلات التجارية، وذاك يسبل الثياب، وذاك يتَشبّه بالنساء، والنساء يتشبهنَّ بالرجال، ومن النساء من تسافر لوحدها إلى مدن بعيدة بل إلى دول وقارات مختلفة بدون محرم، وكثير من الرجال تهاونوا بصلاة الجماعة في المساجد، وهذا تاجر يزاول أنشطة تجارية محرمة كالبنوك الربوية وآخر يبيع أشرطة الغناء والمجون وما أشبه ذلك، وذاك صاحب الصحيفة والمجلة يستخدمها منبراً للطعن في الإسلام والمسلمين، والسخرية والاستهزاء بأهل الدين والعفاف من الرجال والنساء، ووسمهم بالتخلف والرجعية، وهلم جر من صور المجاهرة بالمعاصي.
وكما تعلم أخي ثبتني الله وإياك على طاعته أن الشرع الحنيف قد حذرنا من المجاهرة بالمعاصي وقد جاءت بذلك نصوص كثيرة نأخذ منها نصاً واحداً وهو حديث من أحاديث سيد الأنام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، هذا الحديث في المتفق عليه نذكره بنصه، ثم نبين غريب ألفاظه، ومعناه الإجمالي، ثم ذكر بعض الفوائد المستفادة منه، فنقول وبالله وحده نستعين.
نص الحديث:
عن أبي هريرة رضي لله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « » (رواه البخاري ومسلم).
غريب الحديث:
قوله: « »، اسم مفعول من العافية، وهو إما بمعنى عفا الله عنه، وإما سلمه الله وسلم منه.
قوله: «المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج،[18/119]).
»، هم الذين جاهروا بمعاصيهم وأظهروها، وكشفوا ما ستر الله تعالى عليهم، فيتحدثون بها لغير ضرورة ولا حاجة (قوله: «
»، وفي رواية « »، وهي الاستهتار بالأمور وعدم المبالاة بالقول أو الفعل.قوله: «فتح الباري،[10/487]).
»، هي أقرب ليلة مضت من وقت القول، تقول لقيته البارحة وأصلها من برح إذا زال (المعنى الإجمالي:
أخبث الناس نفساً، وأجرؤهم على الله، الذين لا يستحيون من محاربة الله ومبارزته بالمعاصي، يتبجحون بانتهاك الحرمات، ويقول أحدهم: فعلت البارحة كذا وكذا، واتصلت بفلانة، وبتنا على طرب ولهو وأنس، يستره ربه فيأبى الخبيث إلا الفضيحة!
ومن ألف المعصية وتعودها هان عليه أمرها، وظن أنه شجاع بالإقدام عليها، وقلة المبالاة بها، يقول له الشيطان: "إذا لم تخف من الله فلم تخاف من الناس؟"، وإذا اجتمع الفُسَّاق وتحدث بعضهم إلى بعض، افتخر كل منهم بجريمته وذكر معصيته، وقد لا يكون له ذنب، ولكنّه يسمعهم يقولون: فعلنا كذا وصنعنا كذا، فيختلق ذنباً، ويدعي على نفسه شراً ما فعله ولا وقع فيه.
والمسلمون كلهم في عافية من الأمر، مشمولون بعفو الله على ما كان منهم من الذنوب والآثام، يريدون شراً، وتميل بهم الشهوات إلى المخالفة، فيذكرون الله وتوجل قلوبهم، ويعلمون أن الله كان عليهم رقيباً: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ . وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:52-53]، فلا يتبعون أنفسهم هواها، ولا يعطونها مناها، وإن اقترفوا من الآثام شيئاً ذكروا الله، فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يُصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، إلا المجاهرون الذين لا يتحرجون من خطيئة، ولا يتوبون منها، ولا يسترون معها بستر الله عليهم فإنهم مفضوحون عاجلاً وآجلاً، وعلى رؤوس الأشهاد يوم القيامة يحاسبون على ما صنعوا، ويهتك الله ستره عنهم يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه.
والمؤمن الستير الحيي يسبل الرحمن عليه ستره، ويرخي عليه كنفه، ثم يقرره بذنوبه، أتذكر ذنب كذا وذنب كذا؟ وهو يعترف ويقول: نعم يا رب، فيقول له تبارك وتعالى: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم، ومن عجز عن كتمان سر نفسه، فهو عن سر غيره أعجز (يراجع: إصلاح المجتمع، صـ[323]).
أقسام المجاهرين وأسباب ذلك:
ينقسم المجاهرون بالمعاصي إلى قسمين:
الأول: أن يعمل المعصية وهو مجاهر بها، فيعملها أمام الناس، وهو ينظرون إليه، هذا لا شك أنه غير معافى، وهو من المجاهرين؛ لأنه جر على نفسه الويل، وجره على غيره أيضاً.
وأما جره على نفسه: فلأنه ظلم نفسه حيث عصى الله ورسوله، وكل إنسان يعصي الله ورسوله، فإنه ظالم لنفسه قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[البقرة:57]، والنفس أمانة عندك يجب عليك أن ترعاها حق رعايتها، وكما أنه لو كان لك ماشية فإنك تتخير لها المراعي الطيبة، وتبعدها عن المراعي الخبيثة الضارة، فكذلك نفسك يجب عليك أن تتحرى لها المراتع الطيبة، وهي الأعمال الصالحة، وأن تبعدها عن المراتع الخبيثة، وهي الأعمال السيئة.
وأما جره على غيره فلئن الناس إذا رأوه قد عمل المعصية هانت في نفوسهم، وفعلوا مثله، وصار والعياذ بالله من الأئمة الذين يدعون إلى النار، كما قال الله تعال عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ} [القصص:41].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم)، فهذا نوع من المجاهرة، ولم يذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه واضح، لكنه ذكر أمراً آخر وهذا هو القسم الثاني قد يخفى على بعض الناس فقال: ومن المجاهرة أن يعمل الإنسان العمل السيئ في الليل فيستره الله عليه، يعمل العمل في بيته فيستره الله عليه ولا يطلع عليه أحد، ولو تاب فيما بينه وبين ربه لكان خيراً له، ولكنه إذا قام في الصباح واختلط بالناس قال: علمت البارحة كذا، وعملت البارحة كذا، وعملت كذا، فهذا ليس معافى، هذا والعياذ بالله قد ستر الله عليه فأصبح يفضح نفسه.
وهذا الذي يفعله بعض الناس أيضاً له أسباب:
السبب الأول: أن يكون الإنسان غافلاً سليماً لا يهتم بشيء، فتجده يعمل السيئة ثم يتحدث بها عن طيب قلب لا عن خبث قصد.
السبب الثاني: أن يتحدث بها تبجحاً بالمعاصي واستهتاراً بعظمة الخالق، فيصبحون يتحدثون بالمعاصي متبجحين بها كأنما نالوا غنيمة، فهؤلاء والعياذ بالله شر الأقسام.
ويوجد من الناس من يفعل هذا مع أصحابه، يعني يتحدث به مع أصحابه فيحدثهم بأمر خفي لا ينبغي أن يذكر لأحد، لكنه لا يهتم بهذا الأمر فهذا ليس من المعافين، لأنه من المجاهرين.
والحاصل أنه ينبغي للإنسان أن يتستر بستر الله عزّ وجلَّ، وأن يحمد الله على العافية، وأن يتوب فيما بينه وبين ربه من المعاصي التي قام بها، وإذا تاب إلى الله ستره الله في الدنيا والآخرة (يراجع: شرح رياض الصالحين [2/9]، للعلامة ابن عثيمين المكتبة الإسلامية).
عواقب المجاهرة بالمعصية:
للمجاهرة بالمعصية مفاسد وعواقب وخيمة؛ فمن ذلك حلول العقوبة بجميع الناس، يقول الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].
قال العلماء: "الفتنة إذا عملت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير" (الجامع لأحكام القرآن [7/343]).
وقال عمر بن عبد العزيزرحمه الله: "إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم" (انظر الموطأ [2/991]).
ومن عواقب المجاهرة بالمعصية أنها تذل فاعلها وترديه عاجلاً وآجلاً، قال ذو النون: "من خان الله في السر هتك ستره في العلانية" (الجواب الكافي [34])، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت).
وقال ابن القيم رحمه الله: "لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة الله، فلله الفضلة من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله، وسواه المقدم في ذلك؛ لأنه المهم عنده يستخف بنظر الله إليه، واطلاعه عليه، وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، ويستخفى من الناس ولا يستخفى من الله، ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما عنده وما يقدر عليه، وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة، وقد أفرغ له قلبه وجوارحه، وقدمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حق ربه إن ساعد القدر قام قياماً لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحيي أن يواجه به مخلوق مثله، فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟ وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء" (الجواب الكافي، صـ[99]، دار الكتب العلمية - بيروت).
وقال ابن بطال رحمه الله: "في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تُذلُّ أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حداً، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، رحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك" (انظر فتح الباري [10/502]).
هل يجوز الإخبار بالمعصية؟
لا يعني حرمة المجاهرة بالمعصية أنه يجوز فعلها سراً، بل الكل معصية يأثم عليها سواء فُعلت سراً أو جهراً.. إنما المقصود أن المجاهرة بالمعصية أشد من فعلها سراً؛ لأن المجاهرة بما فيها من استخفاف، وتجرؤ على الله وتشجيع الآخرين عليها، ولكن يجوز للإنسان في حالة أن يخبر بالمعصية إذا وجدت مصلحة من وراء ذلك؛ قال النووي: "فيكره لمن ابُتلي بمعصية أن يخبر غيره بها، بل يقلع ويندم ويعزم أن لا يعود، فإن أخبر بها شيخه أو نحوه مما يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً منها أو ما يسلم به من الوقوع في مثلها أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها أو يدعو له أو نحو ذلك فهو حسن وإنما يكره لانتفاء المصلحة".
وقال الغزالي: "الكشف المذموم إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء، لا على السؤال والاستفتاء، بدليل خبر من واقع امرأته في رمضان فجاء فأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه" (فيض القدير [5/11] للمناوي، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى - مصر).
واجبنا نحو المجاهرين:
حتى لا يعمنا الله بعقابه يجب علينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فمن رأيناه أو سمعناه يجاهر بمعصية الله فإن الواجب علينا أن نبذل له النصيحة؛ فإن استجاب فالحمد لله، وإن لم يستجب كررت له النصيحة، فإن لم يستجب لذلك هُجر إن كان في ذلك مصلحة له وردعاً، حتى يقلع عن ذلك، قال في منظومة الآداب: "فينبغي لك إن كنت متبعاً سنن من سلف أن كل من جاهر بمعاصي الله لا تعاضده، ولا تساعده، ولا تقاعده، ولا تسلم عليه، بل اهجره، ولاقه بوجه مكفهر" ((ينظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني [1/256- 261]).
والله نسأل أن يتوب علينا، وأن يغفر زلاتنا، ويستر عيوبنا، وأن يتوفانا وهو راض عنا.
اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم أكرمنا ولا تهنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأعنا ولا تعن علينا، واسترنا ولا تفضحنا، واهدنا ويسر الهدى لنا.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
- التصنيف:
- المصدر: