ثياب المصلح
أما صقور الخلق عزيزو النفس مستقلو الرأي، فلا يطيقهم المستبد ولا يستريح في وجودهم الطاغية، ولا يتعايش مع إيجابيتهم وتأثيرهم، حتى لو كانوا على الفكر والنهج نفسه!
غالبًا لا يعترف الطغاة على الملأ بأنهم طغاة؛ بل ربما ارتدى الواحد منهم ثياب المصلح، أو تدثر بدثار الواعظ المشفق، أو تستر برداء المشاور المتقبل لرأي غيره الحريص على مشاركة عبيده القرار، وليس أدل على ذلك التستر وأنه سلوك معتاد من هذا الصنف من البشر، مما فعل فرعون إمام الطغاة، ونبراس المستبدين، حين تدثر بدثار المشاورين المتقبلين لآراء الآخرين فقال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26]، ثم لم يلبث أن ارتدى ثياب الناصحين قائلًا عن موسى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
فالمستبد يحلو له اكتمال المنظر وتمام الزينة، فيبدي من قوله ما يخالفه بعمله، ويظهر من حرفه ما يكذبه فعله؛ لكنه يظل في النهاية مستبدًّا طاغيًا، وإن تجمل وتزين، لكنه لإتمام زينة المشورة الصورية، ولإكمال قشرة الموضوعية الزائفة، يجمع حوله من يصلحون لتلك المهمة الرخيصة.
وانظر دائمًا إلى من يجمعهم المستبد حوله، أو يسمح لهم بالبزوغ في دولته، والظهور في فلك نظامه وزمرته، ستجدهم في غالب الأمر من حمائم الناس، سهلي المعشر والانقياد، قد تسبق أسماءهم الألقاب العريضة، وتملأ سيرهم الذاتية الشهادات والدرجات الفخمة؛ لكنهم يشتركون جميعًا في صفات الذلة والانقياد والانبهار الدائم بسيدهم المستبد.
أما صقور الخلق عزيزو النفس مستقلو الرأي، فلا يطيقهم المستبد ولا يستريح في وجودهم الطاغية، ولا يتعايش مع إيجابيتهم وتأثيرهم، حتى لو كانوا على الفكر والنهج نفسه!
فإما أن يهمشهم ويقصيهم، وإما أن يشوههم وبكل بهتان يرميهم أو حتى ينفيهم ويفنيهم؛ فلا يبقى حوله إلا دنيء نفس من أراذل الخلق، يرضى بالهوان ويقبل بالذلة، ويتعايش مع كونه مجرد صدى لأفكار ورغبات سيده المستبد.
- من كتابي صالح للاستعمال الفكري.