كيف ربى المسلمون أبناءهم؟

منذ 2015-02-09

ومن جملة الإضافات التي ظهرت معالمها في ذلك الزمن، وكانت شاهدة على تطور النظام التربوي والتعليمي والتثقيفي في هذه الخلافة، ظهور المدارس العامة والموقوفة، التي كانت بمثابة كليات وجامعات متخصصة في وقتها

 

لقد كانت مظاهر الحياة في عصر الخلافة العباسية آخذة نحو النضوج والظهور والاكتمال، بل والإضافة أيضًا في كافة ميادين الحياة، حتى كانت بغداد واسطة عقد الأرض، وعاصمة الحضارة الإنسانية في وقتها، واستمرت على ذلك عدة قرون لا يُنازعها منازع، ولا يجاريها مجارٍ، حتى بدأت تظهر في الأفق القاهرة وقرطبة وسمرقند ومراكش والقيروان وتونس، وغيرها من منارات العالم الإسلامي وقتها.

ومن جملة الإضافات التي ظهرت معالمها في ذلك الزمن، وكانت شاهدة على تطور النظام التربوي والتعليمي والتثقيفي في هذه الخلافة، ظهور المدارس العامة والموقوفة، التي كانت بمثابة كليات وجامعات متخصصة في وقتها، أشرفت المؤسسة السياسية على بعضها، وكانت بلا شك أفضلها وأجملها وأشهرها مجموعة المدارس النظامية التي أنشأها نظام الملك السلجوقي، وتم افتتاحها عام (459هـ) في بغداد بعد عامين من العمل في إنشائها، وظهرت فروع أخرى للمدارس النظامية في نيسابور وأصفهان وغيرها، لكن الرائع أن غالبية المدارس والجامعات في الحضارة الإسلامية كانت مدارس أهلية خيرية، يقوم بإنشائها الأمراء والأغنياء، وحتى أصحاب المكانة الاجتماعية المتوسطة رغبةً في الخير والبر، وكان يُنفق من خلالها على طلاب العلم من كل حدب وصوب؛ فالنظام الوقفي الرائع الذي يُعَدُّ إضافة كبرى من إضافات الحضارة الإسلامية -وهو (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) أي: حبس أصول الأموال الثابتة أو المنقولة والاستفادة من ريعها وأرباحها للإنفاق على هذه المؤسسات التربوية- كان أحد الحلول الاقتصادية والاجتماعية العبقرية التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بها التشريع الحكيم رحمة ورأفة وخدمة لأوليائه وأنصاره.

وانطلاقًا من هذا البر -الذي أُريد له أن يُستثمر ويُنمى في كلِّ ما من شأنه الديمومة والاستمرارية لأجل خيري الدنيا والآخرة- حرص كثير من الواقفين على وقف أموالهم وحبسها في إنشاء المؤسسات التعليمية وعلى رأسها المدارس، وهنا ظهر الإبداع، وانتشرت سوق العلم، وتسنمت الحضارة الإسلامية ذروة سامقة، ومكانة عالية فلم يتمتع طلاب العلم بهذا الخير العميم في أي أمة مثلما تمتع به أبناء الحضارة الإسلامية؛ فالمدارس منتشرة في أصقاع البلدان الإسلامية، وهي مدارس مجانية، بل كثير منها يُنفِق على الطلاب، وإن محاولة لاستقصاء كَمِّ هذه المدارس، أو كَمِّ تنوعاتها العلمية والإدارية لمما يُعجز الباحثين حقًّا، فهذا أبو حاتم البستي محمد بن حبان (ت354هـ) عالم الحديث والرجال يقول عن وقفه أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت404هـ) يقول: "إن داره وقفت مدرسة لأصحابه، ومسكنًا للغرباء التي يقيمون بها من أهل الحديث والمتفقهة، ولهم جرايات يستنفقونها من داره، وفيها خزانة كتبه في يدي وصي سلَّمها إليه؛ ليبذلها لمَنْ يُريد نسخ شيء منها في الصفة من غير أن يُخرجه منها. شكر الله له عنايته في تصنيفها، وأحسن مثوبته على جميل نيته في أمرها بفضله ورأفته".

وأمثلة ابن حبان من العلماء الذين أوقفوا دورهم أو كتبهم ومؤلفاتهم، وحوَّلوها إلى مدارس للعلم والتربية يستفيد منها أبناء الأمة كثيرون؛ مثل أبي بكر البستي أحمد بن محمد (ت429هـ)، قال تقي الدين الصيرفيني عنه: "من كبار فقهاء أصحاب الشافعي، والمدرسين المناظرين بنيسابور، وكانت له المروة الظاهرة والثروة الوافرة، بنى لأهل العلم مدرسة على باب داره برأس سكة المسيب، ووقف عليها جملة من ماله، وهو معروف بأوقاف أبي بكر بشتيان".

وهناك العلامة الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت الذي "تصدَّق بجميع ماله؛ وهو مئتا دينار، فُرِّق ذلك على أصحاب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، ووصى أن يُتَصَدَّق بجميع ما يخلفه من ثياب وغيرها، وأوقف جميع كتبه على المسلمين"، وأحمد بن علي الأبرادي الحنبلي (ت531هـ) الذي وقف داره بالبدرية شرقي بغداد على الحنابلة.

وهذا أحد أعيان بغداد ووكيل الخليفة العباسي المسترشد بالله (ت529هـ) حمزة بن علي بن طلحة الرازي (ت556هـ) يُوقف مدرسة، ويُعيِّن فيها أبا الحسن محمد بن الخل (ت552هـ) مدرسًا للمذهب الشافعي، وكان أحد أعلام الشافعية في بغداد في القرن السادس الهجري، كما يذكر العلامة الذهبي.

محمد شعبان أيوب

المصدر: جريدة الأمة الإلكترونية