النيش؛ مجرد نموذج

منذ 2015-02-11

(كتالوجات) ضَيَّقت علينا حياتنا، وصعبت عيشنا، وأحيطت بها أسوار شاهقة، تنافس في ارتفاعها ‫(‏سور النيش العظيم).

- (هتشتروا نيش في سفرة جهازكم إن شاء الله؟)
هكذا سألت صديقي المقبل على الزواج.
- (طبعًا؛ هنشتري نيش، يا عم الحمد لله الخير كتير، وربنا فارجها من وسع).
- (ما شاء الله ربنا يزيد ويبارك، بس سؤال آخر يا صديقي: هتشتريه ليه؟)
صمت صديقي طويلًا، وبدأ يفكر في عمق، ثم مط شفتيه بلا مبالاة وتبسم قائلًا: "عادي يا عم هنشتري نيش زي ما الناس كلها بتشتري نيش!"
هذه ببساطة هي حقيقة كثير مما نفعله في حياتنا!

كَثُرَ الكلام والمزاح مؤخرًا حول ظاهرة النيش، وظننت أن صديقي وغيره سيتأثرون بتلك السخريات المنتشرة حول هذا الموضوع ومدلولاته، لكن يبدو أن الأمر أقوى مما كنت أتصور؛ إنها سلطة الثقافة الغالبة، التي هي مثل الناس، النمطية الخانقة، (الكتالوج).

النيش مجرد نموذج بسيط لهذه النمطية و(الكتالوج) الذي يحكم حياتنا!

قطعة من الأثاث لا بد أن تكون ذات واجهة شفافة؛ لتظهر ما وراءها من الأطباق الصيني الفاخرة، وأطقم الشاي والكؤوس اللامعة، والفضيات الثمينة.

لا.

ليست المهمة تخزينية بحتة، فهناك قطعة أخرى من السفرة غالبًا ما تقوم بهذا الدور على أكمل وجه، وهناك أيضًا قطعا مثيلة في المطبخ، بالإضافة إلى حقيقة علمية أخرى وهي أن أغلب ما في النيش لا يستخدم مطلقًا وأحيانا يتزوج العروسان وتمر بهما الشهور والأعوام وينجبا ثم يشيخا ويموتا دون أن يُفتح النيش الفاخر، إلا لتلميع وتنظيف الأشياء الأسطورية القابعة في صمت خلف زجاجه العتيد.

ويا ويل الابن أو الحفيد الذي سيجرؤ يومًا ويقترب من سور النيش العظيم ليطالع تلك المنطقة المحرمة، حينئذ ستلتهمه النظرات الحارقة، ويسمره في مكانه صياح الأم أو الجدة، فقد تجرأ على قُدس الأقداس، وسر الأسرار المنزلية، وكل ذلك لماذا؟

إنه (الكتالوج) والمنطق: مثلما يقول الكتاب.

(الكتالوج) الذي نقدسه في حياتنا، ويدفعنا دفعًا لجل تصرفاتنا

(الكتالوج) الذي يفرض على شابين يبدءان حياتهما سويًا أن يتكلفا ويتحملا كل تلك الضغوط المجتمعية التي لا يعتبر النيش أقساها، وربما لا يقارن بباقي العادات التي يمليها كتالوج الزواج العتيق وقائمة متطلباته الأسطورية.

نفس (الكتالوج) الذي يجعل المرأة المسكينة (تمقق) عينيها بالساعات (للف) المحشي بأنواعه المختلفة ولماذا؟!

ما الهدف من هذا التعذيب وتضييع الأوقات؟!

وهل وضع المكونات الخاصة بالمحشي على هيئة طبقات مثلا لن يوفي بالغرض، ولن يؤدي إلى نفس الطعم، أو على الأقل إلى طعم قريب منه؟!

أم أنها النمطية مرة أخرى، والتقليد العقيم لسُلطة الواقع المحيط.

سُلطة الواقع الذي يملي على المرأة المسكينة أن تكون ماهرة بالمحشي.

قس على ذلك كل (كتالوجات) حياتنا، (كتالوجات) الطالب المسكين الذي لا بد أن يتم حشو مخه منذ نعومة أظفاره بكم هائل من المعلومات، التي لن يفيده أغلبها، كما يتم حشو حقيبته بأثقال من الكتب والكراسات ينبغي أن تقصم ظهره الصغير، ومثلها (كتالوجات) التنسيق واختيار الكلية التي يفرضها مجموعه، وليست ميوله ومهاراته ومواهبه.

ومثلها (كتالوجات) الشهادات والمؤهلات التي عليه أن يبحث عنها على قدم وساق، لا لشيء -غالبًا- إلا لأن هذا هو ما يمليه الكتالوج، رغم أنه يعلم حقيقة كون جل تلك الشهادات والمؤهلات لا يعترف بها في أي دولة متقدمة، سيفاجأ إذا فكر أن يذهب إليها يومًا أن عليه إلقاء كل ما تلك المؤهلات العتيدة عرض الحائط والبدء من جديد.

لكنه مع ذلك سيسير على القضبان وفق توجيهات (كتالوج) التعليم المصري العقيم وسائر (كتالوجات) العادات البالية والتقاليد العجيبة، التي نقوم بها دون تفكير أو تساؤل عن حقيقة تلك الأشياء وضرورتها، ولزوم السير على خطواتها المرسومة بعناية.

(كتالوجات) ضَيَّقت علينا حياتنا، وصعبت عيشنا، وأحيطت بها أسوار شاهقة، تنافس في ارتفاعها ‫(‏سور النيش العظيم)‬.

أو (سور الصين العظيم).

ما الفارق بكثير!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام