على هامش حوارات نماء: المالكي والعبث الفكري

منذ 2015-02-18

حينما تروّج لفكرة وتعيب على الآخرين عدم القناعة بها وتسخر منهم، ثم إذا حانت ساعة المحاقة والمناظرة صرفت وجهك عن إقامة بنيانها ونقض ما يقابلها فجديتك مع فكرتك محل نظر، ومن العابثين بالأفكار ضرب ليس مناداته بالفكرة عبارة عن مزحة، لكنه في ذات الوقت لا يهمه إن كانت حقاً أو باطلاً تعرف ذلك حينما لا تراه يهتم بالحديث عن صلب فكرته!

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

حينما تروّج لفكرة وتعيب على الآخرين عدم القناعة بها وتسخر منهم، ثم إذا حانت ساعة المحاقة والمناظرة صرفت وجهك عن إقامة بنيانها ونقض ما يقابلها فجديتك مع فكرتك محل نظر، ومن العابثين بالأفكار ضرب ليس مناداته بالفكرة عبارة عن مزحة، لكنه في ذات الوقت لا يهمه إن كانت حقاً أو باطلاً تعرف ذلك حينما لا تراه يهتم بالحديث عن صلب فكرته!

مناظرة غير متكافئة تلك التي جرت في برنامج (حوارات نماء) على قناة دليل حول سيادة الشريعة، بين فضيلة الشيخ د. بندر الشويقي والأستاذ عبدالله المالكي، ففي حين زانها الأول بعلمه ووضوحه ومعرفته نقطة الحوار وفيم سيتكلم، شانها الثاني بقلة فهم وتخبط وانصراف عن النقطة الرئيسة في الحوار إضافة إلى عدم انضباطه بقانون الحلقة وكثرة مقاطعته وهتافه الشعاراتي.

لقد هرب المالكي إلى ثلاثة مناطق كلها خارجة عن الموضوع، وبدد كثيراً من الوقت فيها ليضيق الوقت عن الحديث الموضوعي الذي لا يقدر على تكاليفه:

1- الخلط بين المبدأ الذي هو موضوع الحوار وبين أشكال النظم السياسية .
2- الخلط بين القدر والواقع وبين التشريع.
3- التهويل بفزاعة العنف الساقطة!

• موضوع الحوار:
كان موضوع الحوار متعلقاً بمبدأ من مبادئ الحكم السياسي، هو عند المالكي: (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة) وعند الشويقي: (سيادة الشريعة) وبغض النظر عن التفصيل فيما وراء هذه الشعارات إلا أن المالكي لم يستوعب أنه يناقش حول (مبدأ) وضيع كثيراً من وقت الحلقة - وشغب كثيراً أيضاً - باستجرار الحديث حول شكل النظام السياسي.

لقد أعطاه الشويقي ما يشبه الشيك المفتوح حول هذا الشكل الذي ظل يشغب حوله، ونبهه كثيراً إلى أن القضية تتعلق بمبدأ ودين فحواه حاكمية الشريعة قانوناً دون افتقار لتصويت ولا غيره، وسيادتها على الحاكم والمحكوم، فما الذي منع المالكي أن يستوعب هذه النقطة؟

هل يجهل المالكي قصة (المبادئ فوق الدستورية) و (الحقوق غير القابلة للتصويت) حتى يكون الكلام في مبادئ الحكم أكبر من مستواه؟ الواقع أنه لا يجهل هذه الأشياء وهو الذي صرح بأن قيادة المرأة للسيارة (حق غير قابل للتصويت) رغم أنه يدرك أن أغلبية مجتمعه يرفض هذه القيادة، أو قل يخمن أن الرافضين لها قد يفوزون بالتصويت لو طرح، ومع ذلك أسعفه تفكيره أن يستوعب أنها (حق) للمرأة غير قابل للتصويت بل هو مما تقتضي مبادئ السياسة العادلة منحه، وحينما تغفله السياسة فسيكون هذا منها مصادرة غير مشروعة لحق مشروع، ولو تمت هذه المصادرة عبر تصويت فلا عبرة بها، فالحقوق لا يصوت عليها، هذا المثال السخيف الذي شرحته بعد أن قرأته من كلام المالكي نفسه يثبت أن المالكي غير عاجز عن استيعاب موقف الشويقي، الذي كان يتحدث عن (مبدأ) حاكمٍ على الأشكال السياسية بغض النظر عنها، فظل المالكي يطارد الأشكال ويشغب حولها ويزعم أنه لم يفهم الشكل الذي يريده الشويقي، بينما تكررت على لسان الشويقي كل الأشكال المتصورة الشوري منها والاستبدادي، وبيّن غلط الاستبدادي منها، لكنه يتسامى عن الشكل بتوضيح المبدأ الحاكم (شريعة الله عز وجل الملزمة للمسلمين من غير افتقار للتصويت) وهذا المبدأ هو ما أخل به المالكي في كتابه.

تفسير هذا الخلط بين موضوع المبدأ والشكل السياسي : أنه خلط متعمد، ليس فارسه المالكي وحده، بل كل جاهل من التنويريين، أو قل ضعيف الموقف أمام جنايته بحق الشريعة، لا يملك تبريراً تتقبله النفس الإسلامية يقدّمه لمشاهد مسلم ، ويؤكد هذا التفسير أنه تم طرح السؤال الجوهري على المالكي ( لماذا لا تجعل الشريعة من جملة الحقوق التي لا تقبل التصويت عندك) فتجاهل هذا السؤال ولم يجب عليه!

لقد أجاب العلمانيون على هذا السؤال، وكانوا صرحاء حينما قالوا: إن جعل الشريعة مبدأ فوق دستوري (غير قابل للتصويت) سيعني منح حصانة لعلماء الشرع الذين يفسرون هذه الشريعة، وهذه الحصانة ستكون (كهنوتاً) ، وهذا الجواب العلماني يغفل أن (الحقوق فوق الدستورية) التي لا تقبل التصويت عندهم، ينطبق عليها ذات الشيء فسيظل تفسيرها وشرحها حكراً على رجال الحقوق والدستور، وهم قلة في الأمة الإسلامية (أقل) من علماء الشريعة، ولن يكون ذلك كهنوتاً لأن الرجال سيكونون محكومين بمصادر ومدونات حاكمة عليهم لا يمكنهم العبث بها، فكذلك الوضع مع الشريعة الإسلامية التي لا يملك العلماء تحريفها ولا العبث بها وإنما بيانها فحسب، بخلاف شريعة الكنيسة التي كان زمامها بيد الأحبار والرهبان تبديلاً وتحريفاً.

والخلاصة: أن موضوع الحوار (قابلية الشريعة للتصويت من عدمه) لم يحظ باهتمام المالكي فصرف جل وقته في التشغيب بأشكال الحكم السياسي، وبكلام بدهي حول هذه الأشكال، ما كان لينصرف له لولا ضعف موقفه في (النقطة الرئيسة) ، بل ولما أعطاه الشويقي شيكاً على بياض حول الشكل السياسي ملتزماً الكلام عن المبدأ الحاكم: غرق في مطالبات وتشغيبات مؤداها بيان شكل محدد ، هذا الشكل لم يكن قضية الحوار.

• الواقعية التنويرية:
من المناطق التي هرب إليها المالكي منطقة القدر، فيما يمكن تسميته (الواقعية التنويرية) التي تشبه إلى حدٍ ما واقعية الاشتراكيين الذين كانوا يزعمون أن (الواقع المادي) هو ما يصوغ الأفكار والنظريات والأديان، فجاء التنويريون بصنيعٍ يحذو صنيع هؤلاء، والتزم المالكي منه مظهرين في حواره:

1- قوله: (لا يمكن تطبيق الشريعة دون إرادة بشرية) وكررها في الحلقة الأولى والثالثة، وهذا مبحث الإرادة القدرية التي اختلف فيها أهل السنة مع الجبرية والقدرية، فطرف لا يثبت للإنسان إرادة ويقول بالجبر، وطرف يثبت له إرادة لا مخلوقة بل خالقة عازبة عن علم الله وقدرته، وكلاهما ضال، وأهل السنة يثبتون للإنسان إرادة تحت إرادة الله، ولكن ليس هذا الموضع البدهي هو موضع الحوار، فالكلام عن الاختيار الشرعي، أو نقل هذه الإرادة القدرية إلى حيز التشريع، فتصير إرادة تشريعية لها آثار ملزمة قانوناً، وإذا كان المالكي سيرتب الآثار القانونية - كما في نظريته - بالاختيار البشري محتجاً بأنه (لا يمكن تطبيق الشريعة إلا بإرادة واختيار) فسيلزمه ترتيب الآثار القانونية على كل إرادة واختيار بشرية مهما كانت ظالمة مستبدة شريرة ...إلخ ، وهو ما لا يلتزمه، ولا يعجز عن فهم أن مخالفه لا يلتزمه أيضاً، لأن منطقة القدر غير الكلام في الشرع، ولا تفسير لهذا الخلط بين المنطقتين إلا ضعف موقفه وعدم وضوحه وجديته.

2- ومما يتكرر كثيراً على ألسنة التنويريين وفاه به المالكي في الحوارات: الاحتجاج بما يشبه الصيرورة، فيزعمون أن فكرتهم فرضت نفسها في الواقع وأن الدول تجاوزت هذا النقاش، وكأن هذا الأمر دليل على كونها حقاً بهذه الصيرورة، ولقد كانت العلمانية ضاربة أطنابها في بلاد العالم الإسلامي بالأمر الواقع وباستبدادٍ غاشم لم يسبق له في التاريخ مثيل، وكان المؤمنون بها يحتجون بالواقع الأتاتوركي والناصري والبعثي والقذافي ... إلخ على أن العلمانية فرضت نفسها والرافضون لها تجاوزهم التاريخ، وهكذا يسلك سبيلهم التنويريون، ولا غرو فقد استوردوا منهم كثيراً من الأدوات والتقنيات والفهوم والأفكار، وفي النهاية: صار الواقع يصوغ الحق عندهم ويثبته، وهذا صنيع من لا يقيم لدين الله وزناً.

• قصة جماعات العنف المسلح :
منهج المالكي في هذا الحوار أنه يبدل اسطوانة مشروخة مكان اسطوانة مشروخة، الأولى مشروخة في عقلها والثانية مشروخة في عقلها وأخلاقها أيضاً:

فيبتدئ بشرح بدهيات (الشريعة لا تطبق نفسها ، والشريعة لا تكون إلا عن اختيار، والبرلمان تحت الدستور، والدستور فوق البرلمان ... إلخ) فإذا ما جوبه بأنها بدهيات وأنها خارج محل النزاع، والكلام في قابلية الشريعة للتصويت وافتقارها قانونياً له، انتقل إلى مصادرة سخيفة : ما تقبل بالتصويت إذن تؤيد جماعات العنف المسلح !!
والمالكي ليس عاجزاً عن فهم موقف مخالفه وأنه لا كما يتصور، لكنه بكل تفاعل أخلاقي يحبذ أن يقع مخالفه في ورطة على أن يحتاج هو إلى برهنة وكلام موضوعي لا يطيقه.

الحقوق لا تطبق نفسها -ومنها حق القيادة للمرأة- ولا تطبق إلا بإرادة بشرية (وهذا كلام بدهي ما فتئوا يلوكونه) ولكنها عند المالكي ثابتة بنفسها غير مفتقرة لتصويت، أفتراه حينما صرح أنها (غير قابلة للتصويت) صار من مؤيدي جماعات العنف المسلح؟!

فما بال الشريعة إذن؟!
إنني لا أغفل أن بين المالكي وبين الرؤية الإسلامية خلاف في القتال ومسوغاته، فالقتال سائغ في الإسلام لإعلاء الدين وحمايته، بينما المالكي لا يجيزه إلا لإعلاء الديمقراطية الليبرالية، وهذا ما بينه الشويقي وقطع به تشغيبات العنف الساقطة في الحوار، إن هذا الخلاف حول مسوغات القتال سيكون تحصيل حاصل لو التزم المالكي الموضوع الرئيس: (لمن السيادة والإلزام القانوني، ألشريعة الله تعالى؟ أم للحقوق الليبرالية اللادينية التي يمررها تحت مسمى سيادة الأمة؟) ولو التزم هذا البحث ودلائله وبراهينه لحصّل (القوة في الإلزام بالحق) التي يسميها عنفاً من جملة ما سيحصله من فوائد وترتبات، لكنه آثر التذرع بخطاب إعلامي يداعب صورة ذهنية معينة عن (العنف) ولدّتها ديكتاتوريات وحكومات طاغوتية، ومزاج إعلامي مبنٍ على هذه الصورة.

• لماذا هذا الخلاف؟
طرح سؤال في الحلقة: ما دام الاتفاق حاصل على خوض غمار النظم السياسية القائمة، فلماذا الاختلاف على أمور نظرية ؟ وكان جواب المالكي حلقة في سلسلة العبث الذي مارسه في الحلقة، لقد قال: إنهم هم الذين افترضوا علينا صورة تنحية الشريعة فاضطررنا لجوابهم!

والعاقل لا يحتاج لطول تأمل حتى يعلم كذب هذه القضية في هذا السياق، فإذا كان الاتفاق حاصل على الصورة الواقعة فماذا يستدعي الافتراض أصلاً؟ وإذا كانت الفتوى بالمشاركة في النظم السياسية الديمقراطية تخفيفاً لشرها صادرة من زمان الشيخ السعدي ومن بعده ابن باز وابن عثيمين - قبل ظهور الفكرة الليبرالية بعقود بل وقبل ولادة المالكي- فأي افتراض مزعوم بدئ به؟

إن المواقف التي أحدثت الخلاف بمخالفتها للشرع: إنكار العقوبات الشرعية، وإنكار الاحتساب الشرعي، وتأييد الزنديق الذي قال بنقص القرآن، وتأييد الذي كذب مفهوم التوحيد في القرآن لما أوقف عن الكتابة، وتأييد حرية تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه تحت ذريعة عدم الإيمان به، والقول بحرية المنافقين في السب والاستهزاء والطعن في الدين...إلخ، و كل هذه المواقف المنحرفة التي تصدر من نظرية لادينية فردانية تتجانف عن التحاكم إلى شريعة الله وإلزام الأهواء وتقييد الحريات بها: وقائع عين ومواقف فكرية وعملية محدثة امتثلها التنوير واستوجبت النكير على هذا الفكر والبراءة منه، وحماية القضايا الشرعية والإسلامية من تلاعبه وعبثه.

• مشهد من المناظرة:
"الشويقي: أصبحتَ غداً ووجدت انقلاب لشخص يريد تطبيق الشريعة عبدالله المالكي سيحمل سلاحه ويقاتله.
المالكي: صح .
الشويقي: سيقاتل هذا الذي يريد الشريعة ، سيصطف مع النابذين للشريعة لمقاتلة من يريد فرض الشريعة، وربما نصفهم كفار .
المالكي: تماماً.
الشويقي: الأستاذ عبدالله يقول يقاتل، وهنا هو يؤمن بالعنف !
المالكي: لا خطأ.
الشويقي: هذا الذي انقلب في البلد الديمقراطي الذي لم نصل فيه للشريعة وأقام الشرع قلت قبل قليل: الأستاذ عبدالله سيصطف ويقاتله قال: نعم !
المالكي: خطأ."

هكذا بمنتهى العبث !
ولو كان عندي وقت لمراجعة الحلقات مرة أخرى لأخرجت من أمثال هذا المشهد عشرات المشاهد التي تقف بك على العبث والتقلب الذي لا يناسب إلا الأفكار المتهافتة.

• خاتمة:
إن الخلاف بين الرؤية الإسلامية ورؤية التنوير الليبرالية (في موضوع سيادة الأمة) ليس في قضايا بدهية من جنس: "أن الشريعة تطبق بإرادة واختيار، وأن الشريعة لا تطبق نفسها" وليس اختلافاً حول شكل الدولة ونظامها، ولا خلاف حول عمل مسلح أو مسار سلمي، إنما هو بكل اختصار:

خلاف حول حاكمية الشريعة بذاتها، فالإسلاميون يقولون: بحاكميتها الملزمة ديانة وقانونا من غير افتقار لتصويت، والتنويريون: مركب قولهم من موقفين: 1- فيسلبونها هذه الحاكمية القانونية 2- في حين ينيطون الإلزام القانوني غير المفتقر لتصويت لجملة من المعاني الليبرالية يسمونها (حقوق).

ولذلك لم يقتصر انحرافهم على نزع الحاكمية عن الشريعة في الحيز القانوني ابتداءً، حتى حرفوا ذات الشريعة وأنكروا ما يتعارض منها مع (الحقوق الليبرالية الملزمة) التي جعلوها سقفاً مكان سقف الشريعة، فحتى لو صوت الناس لشريعة الإسلام، فلن تكون الشريعة التي يعرفها المسلمون منذ مبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما قبل الثورة الفرنسية، التي لا يسوغ فيها ردة وكفر بالإسلام وطعن فيه في مجتمع المسلمين، بل ستكون شريعة ليبرالية عاجزة عن حماية نفسها وإقامة الهيبة لمرجعيتها ضد الكافرين بها، ولو صوت لها الناس!

 

عبد الوهاب بن عبد الله آل غظيف