ذم الحرص على المال والشرف (2)

منذ 2015-03-16

قال الثوري: إنما فضل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء، وقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" (أبو داود).

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد تكلمنا في مقال سابق عن ذم الحرص على المال وعن النوع الأول من نوعي الحرص على الشرف، وفي هذا المقال نتحدث عن النوع الثاني من الحرص على الشرف، وهو:

 طلب الشرف على الناس بالأمور الدينية: 
وهذا أفحش من الأول وأقبح وأشد إفسادا وخطرا؛ فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم. 
قال الثوري: إنما فضل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء، وقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" (أبو داود). 
يعني ريحها، وسبب هذا والله أعلم أن في الدنيا جنة معجلة، وهي معرفة الله ومحبته والأنس به والشوق إليه وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة. 

ولهذا كان أشد الناس حسرة يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها وأحقرها، فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة فباعها ببعرة أو شيء مستقذر لا ينتفع به، فهذا حال من طلب الدنيا بعلمه. 
ومن طلب الشرف بالدين أن يطلب العبد بالعلم والعمل والزهد الرياسة على الخلق والتعالي عليهم. 
عن ابن مسعود قال: (لا تعلموا العلم لثلاث لتماروا به السفهاء ، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله فإنه يبقى ويفنى ما سواه).

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول الخلق تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة" منهم العالم الذي قرأ القرآن ليقال: قارئ، وتعلم العلم ليقال: عالم، وأنه يقال له: قد قيل ذلك، ويؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقي في النار. 

ومن طلب الشرف بالدين الجرأة على الفتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها. 
قال علقمة: كانوا يقولون: أجرؤكم على الفتيا أقلكم علما. 
وعن البراء قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم من رجل إلا ود أن أخاه كفاه. وفي رواية فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. 
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أعلم الناس بالفتاوى أسكتهم، وأجهلهم بها أنطقهم، وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا أفتى فكأنما يقلع ضرسه. 
وقال بعضهم: العلم ثلاثة: حلال وحرام ولا أدري. 

وقال الإمام أحمد: ليعلم المفتي أنه يوقع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك. 
وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان. 
وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ثم يقول: ما وجدت أحدا تسأله غيري ؟ وقال: لقد تكلمت ولو وجدت بدّاً ما تكلمت، وإن زمانا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء. 

وقال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سئلت عن مسألة فلا يكن همّك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولا. 
وقال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله }[الحجرات:1]. 
وقال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الكذب لا يفلحون } [النحل:116]. 

ومِن طلب الشرف بالدين كذلك الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسات فيها. 
خرّج الإمام أحمد وأبو داود نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديثه: "وما ازداد أحد من السلطان دنواً إلا ازداد من الله بعداً " (رواه أحمد). 
ومن أعظم ما يخشى على من يدخل على الملوك الظلمة، أن يصدقهم بكذبهم، ويعينهم على ظلمهم، ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم. 

وقد خرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض" (رواه أحمد). 

ومن طلب الشرف بالدين محبة الشهرة والسعي إليها، وقد كان السلف رضي الله عنهم يكرهون الشهرة أشد الكراهة، منهم أيوب والنخعي وسفيان وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وكذلك الفضيل وداود الطائي وغيرهم من الزهاد والعارفين، وكانوا يذمون أنفسهم غاية الذم، ويسترون أعمالهم غاية الستر. 
كان محمد بن واسع يقول: لو أن للذنوب رائحة، ما استطاع أحد أن يجالسني. 
وكان إبراهيم النخعي إذا دخل عليه أحد وهو يقرأ في المصحف غطاه. 
وكان أويس وغيره من الزهاد إذا عُرفوا في مكان ارتحلوا عنه. 
وقد تبين بما ذكرناه أن حب المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه شيء. 

واعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، ويرغب عن العلو الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله وسخطه وانحطاط العبد وسفوله، قال الله تعالى: {فأما من طغى . وآثر الحياة الدنيا . فإن الجحيم هي المأوى . وأما من خاف مقام ربه . ونهى النفس عن الهوى . فإن الجنة هي المأوى}[النازعات:37-41]. 
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. 
وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل. 
ففي درجات الآخرة الباقية يشرع التنافس وطلب العلو في منازلها، والحرص على ذلك والسعي في أسـبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلو قال الله عز وجل: 
{وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } (المطففين:26).

وأما العلو الفاني المنقطع الذي يعقب صاحبه غدا حسرة وندامة وذلةً وهوانا وصغارا، فهو الذي يشرع الزهد فيه والإعراض عنه، وللزهد فيه أسباب عديدة: 
فمنها: نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة، فينظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمكذبين ومن نازع الله رداء الكبرياء. 
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يقال له بُوْلس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار: طينة الخبال "( رواه الترمذي، وحسنه الألباني). 
استأذن رجل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القصص على الناس فقال: إني أخاف أن تقص عليهم فتترفع عليهم في نفسك حتى يضعك الله تحت أرجلهم يوم القيامة.
 
ومنها: نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة في الآخرة، فإنه من تواضع لله رفعه. 
ومنها: وليس هو في قدرة العبد ولكنه من فضل الله ورحمته، ما يعوض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف مما يجعله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى، وهيبة الخلق لهم في الظاهر ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن، وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرياسات والحرص على الشرف كما قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. 
ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل والرياسة الفانية قال الله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير }[الأعراف:25]. 
وقال: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً } [فاطر:10]. 
والله عز وجل هو العزيز ومن أراد العزة فليطع العزيز. 

كان حجاج بن أرطأة يقول : قتلني حب الشرف ، فقال له سواء: لو اتقيت الله شرفت، وفي ذلك قيل: 
ألا إنما التقوى هي العز والكرم      وحـبك للدنيــا هــو الـذل والـســـقم 
ولـيـس على عـبد تقي نقـيـصــة      إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم 
قال بعضهم: مَن أشرفُ وأعز ممن انقطع إلى من مَلَك الأشياء بيده. 
كان الحسن لا يستطيع أحد أن يسأله هيبة له، وكذلك كان مالك بن أنس يُهاب أن يُسأل حتى قال فيه القائل : 
يَدَعُ الجواب ولا يُراجع هيبة      والسائلـون نواكس الأذقان 
نور الوقار وعز سلطان التقى     فهو المهيب وليس ذا سلطان 
قال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه على الله ، أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين. 

وكتب وهب بن منبه إلى مكحول: أما بعد فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفا ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى، ومعنى هذا أن العلم الظاهر من تعلم الشرائع والأحكام والفتاوى والقصص والوعظ ونحو ذلك مما يظهر للناس، يحصل به لصاحبه عندهم منزلة وشرف، والعلم الباطن المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته ومراقبته والأنس به والشوق إلى لقائه والتوكل عليه والرضا بقضائه ، والإعراض عن عرض الدنيا الفاني والإقبال على جوهر الآخرة الباقي، كل هذا يوجب لصاحبه عند الله منزلة وزلفى، وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف في الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه. 
قال الله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً }[مريم:56].
أي مودة في قلوب عباده.
نسأل الله الكريم من فضله، وصل الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.