سبك اللجين في فضل بر الوالدين

منذ 2015-03-17

وإنَّ مِن أجلِّ الأسباب التي يسعَد بها الإنسان في عاجله وآجله برَّ الوالدين؛ أن يُدرك المرءُ أحدَ أبَويه أو كلَيهما في حال الكِبَر، فهذه نعمةٌ من الله تحتاج إلى شُكرٍ

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

قال الإمام عليٌّ رضي الله تعالى عنه:

عَليك بِبرِّ الوالدَينِ كِلَيهما ***وبرِّ ذَوي القُربى وبرِّ الأباعدِ

 

وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

أطِعِ الإلهَ كَما أمَرْ *** وامْلأ فُؤادَك بِالحذَرْ

وأطِعْ أباك فإنَّه *** رَبَّاكَ مِن عَهدِ الصِّغَرْ 

عندما نتأمَّل في وجودنا في هذه الحياة، ونتفكَّر في الكون مِن حولنا وفي خَلقنا وفي أنفُسنا، نجد أن الله عز وجل قد منَّ علينا بالكثير من النِّعم والآلاء التي لا يُحصيها أحدٌ من الناس، فضلاً عن أن يؤدُّوا شُكرها، والشكرُ حافظ النِّعم، وجالبُ المزيدِ منها.

ولكن الله جلَّت قدرتُه -للُطفه بعباده- هيَّأ للإنسان أسباب النجاة في دنياه وأخراه، فإذا اغتنم الإنسانُ هذه الأسبابَ الميسَّرةَ له نال السعادة والحبور، وإذا أعرض عنها ونسيها لقي الخسار والبوار.

 

وإنَّ مِن أجلِّ الأسباب التي يسعَد بها الإنسان في عاجله وآجله برَّ الوالدين؛ أن يُدرك المرءُ أحدَ أبَويه أو كلَيهما في حال الكِبَر، فهذه نعمةٌ من الله تحتاج إلى شُكرٍ، والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح؛ بأن يَعترف الإنسانُ بقلبه أن المنعِم عليه بذلك إنما هو الله، وأن يتحدَّث بنعمة الله عليه ولا يَشكوَه إلى خلقه، وأن يعمل بمقتضى هذه النِّعم، فيستخدمَها فيما يُرضي الله، ويَكفَّها عن معاصيه.

 

وقد جاء الحثُّ على بر الوالدين في كثيرٍ من آيات الذِّكر الحكيم، ونصوص السنة النبوية المشرفة؛ دلالةً على أهمية هذا الأمر وعِظَم شأنه عند الله سبحانه، كما وعَد الله عليه -والله لا يخلف الميعاد- الجزاءَ الأوفى، والسعادةَ والهناء، وسَعة الرِّزق، والبرَكة في العمر.

فيا لِسعادة مَن عنده والداه، ويسعى في برِّهما ومرضاتهما!

 

ولكن النفس توَّاقةٌ إلى مَن تتأسَّى به وتتمثل هَدْيه في معاملته مع والديه؛ ولهذا أسوق إليكم نماذج من قصص البر بالوالدين جاءت في كتاب (عقوق الوالدين: أسبابه- مظاهره- سبل العلاج: 1/ 53) وما بعدها، أنقُلها بتصرف يسير واختصار؛ رجاء نفعها وفائدتها:

 

ولنا في الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا قدوةٌ حسنة في هذا الشأن؛ فلقد ضربوا أروع الأمثلة في بر الوالدين؛ فرفع الله منزلتهم في الدارين، وأعلى ذِكرهم في الخالدين.

 

نماذج من بر الأنبياء:

1- فهذا نبي الله نوح عليه السلام، يَذكر لنا الله عز وجل نموذجًا من بره بوالديه؛ حيث كان يدعو ويستغفر لهما؛ كما في قوله تعالى عنه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].

 

2- وهذا إمام الموحدين إبراهيم الخليل عليه السلام، يخاطب أباه بلطف شفَّاف، وإشفاق بالغ، وحرص أكيد؛ رغبةً في هدايته ونجاته، وخوفًا من غوايته وهلاكه، فيقول كما أخبر الله عنه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:41-45].

لقد خاطب والده بتلك الكلمات المؤثرة، والعبارات المشفقة، التي تصل إلى الأعماق، ولولا أنها وجدَت قلبًا قاسيًا عاتيًا أغلَفَ أسود - لأثرت فيه، وكانت سببًا في هدايته ونجاته.

 

3- وهذا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام يضرب أروع أمثلة البرِّ في تاريخ البشرية؛ وذلك عندما قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]

فماذا كان رد ذلك الولد الصالح؟ هل تباطأ أو تكاسل، أو تردَّد وتثاقل؟ لا، بل قال كما أخبر الله تعالى عنه: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].

 

4- وهذا عيسى بن مريم عليه وعلى أمه السلام يأتيه الثناء العطر، والتبجيل العظيم من ربِّه وهو ما يزال في المهد بأنه بارٌّ بأمه، ويَقرن هذا بعبوديته لربه عز وجل؛ قال سبحانه عنه: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32].

 

نماذج من بر السلف:

وإذا أنعمنا النظر في سيرة السلف الصالح وجدنا صفحاتٍ مشرقةً تدل على شدة اهتمامهم ببر الوالدين؛ فمن ذلك ما يلي:

1- عن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب: "أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته:

عليكِ السلام ورحمة الله وبركاته يا أمَّاه.

تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

يقول: رحمكِ الله كما ربيتني صغيرًا.

فتقول: يا بني، وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك كما برَرتَني كبيرًا"[1].

 

2- وهذا ابن عمر رضي الله عنهما لقيَه رجلٌ من الأعراب بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه.

قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضَون باليسير!

فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبرَّ البرِّ صلةُ الولدِ أهلَ ودِّ أبيه» [2].

 

3- وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: «دخلتُ الجنة فسمعتُ فيها قراءة، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البِر، كذلكم البر»، وكان أبرَّ الناس بأمِّه[3].

 

4- وعن أبي عبدالرحمن الحنفي قال: رأى كَهمسُ بن الحسن عقربًا في البيت، فأراد أن يقتلها أو يأخذها، فسبقَته، فدخلت في جُحر، فأدخل يده في الجحر ليأخذها، فجعلَت تضربه، فقيل له: ما أردتَ إلى هذا؟! قال: خفتُ أن تخرج من الجحر فتجيء إلى أمي، فتلدغها[4].

 

5- وهذا أبو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو المسمَّى بزين العابدين، وكان من سادات التابعين؛ كان كثيرَ البرِّ بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمِّك ولا نراك تُؤاكل أمَّك! فقال: أخاف أن تَسير يدي إلى ما قد سبقَت عينُها إليه، فأكون قد عقَقتُها"[5]؛ اهـ.

 

وهذه قصيدة نظَمها أحد الشعراء مخاطبًا بها أباه، وتحمل في طياتها معاني البر والعرفان بالجميل وفضل الوالدين، أسوق إليكم معظمَها.

يقول الشاعر:

لم تَنظِم الشِّعرَ يومًا ما ولا الأدبا *** وما سهرتَ الليالي تقرأُ الكُتُبا

ولم تكنْ من ذوي الأموال تجمعُها *** لم تكنِزِ الدُّرَّ والياقوتَ والذهبا

لكنْ كنزتَ لنا مجدًا نعيشُ به *** فنحمدُ اللهَ مَن للخير قد وَهبا

أضحى فؤاديَ سِفرًا ضَمَّ قافيتي *** ودمعُ عيني على الأوراق قد سُكِبا

سأنظِمُ الشعرَ عِرفانًا بفضلك يا *** مَن عشْتَ دهرَك تَجني الهمَّ والنَّصَبا

سأنظِم الشعر مدحًا فيكَ منطلِقًا *** يجاوز البدرَ والأفلاكَ والشُّهُبا

إن غاضَ حِبري بأرض الشِّعر، وا لهَفي *** ما غاض نبعُ الوفا في القلب أو نَضَبا

قالوا: تُغالي! فمَن تَعني بشِعرك ذا؟ *** فقلتُ: أعني أبي، أنعِمْ بذاك أبا

كم سابقَ الفجرَ يسعى في الصباح ولا *** يَعودُ إلا وضوءُ الشمس قد حُجبا

تقول أمي: صغارُ البيت قد رقَدوا *** ولم يَرَوْك، أنُمضي عمرَنا تعَبا؟

يجيب: إني سأسعى دائمًا لأرى *** يومًا صغاري بدورًا تَزدهي أدَبا

ما شعريَ اليومَ إلا مِن وميضِ أبي *** لولاه ما كان هذا الشعرُ قد كُتبا

فالمالُ لن يُعلِيَ الإنسانَ منزلةً *** إنْ لم يكُنْ بالمزايا يَرتقي السُّحُبا

لقد نُسبتَ أبي للخير في كرمٍ *** يا منبعَ النُّبل فلْتَهْنأ بذا نسَبا

نصَحْتنا ما أُحَيلى النُّصْحَ يا أبتِ *** فأنت مدرسةٌ في النصح لا عَجَبا

حَماك ربي من الحُسَّاد يا أبتِ *** قد ارتقيتَ، وكم من حاسدٍ غَضبا

فاحفَظ لنا ربَّنا دينًا نَدينُ به *** قد شرَّف العُجمَ طولَ الدَّهرِ والعَرَبا

واحفظ لنا والدي والأمَّ يا سنَدي *** وإخوتي وأناسًا حبُّهُم وجَبا

 

فاللهمَّ ارزقنا البرَّ بوالدينا أحياءً وأمواتًا، وبارك لنا فيهم واحفظهم من كل سوء، وعافِهم من كل بلاء، وألبِسْنا وإياهم ثوبَ العافية في الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

---------------------------------------------

[1] رواه البخاري في الأدب المفرد (14)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: "حسن الإسناد".

[2] رواه مسلم (2552)، وأبو داود (5143).

[3] رواه الإمام أحمد 6/ 151، وعبدالرزاق في المصنف (20119)، والبغوي في شرح السنة 13/7، وصححه الحاكم 3/ 208، ووافقه الذهبي.

[4] حلية الأولياء، 6/ 211، وانظر: سير أعلام النبلاء 6/ 317.

[5] عيون الأخبار، 3.

أحمد عبد الله الهلالي