خطوات في التربية - (11) العبد المدين (2)
إن الشكر هو الشعور الطبيعي والأول اللائق بإدراك حقيقة القيومية والرزق والإمساك، والمتابعة اللحظية في كل آن، والقيام على النفوس، والإنعام المغرق والمغدق بلا حساب في كل حين.
العبد المدين (2)
الطعام بقدَر والشراب والملبس والمسكن والمبيت وكل لحظة بقدَر، حتى إن نزل بلاء فإنّه ينزل بقدْر وبقدَر، ويُرفع بقدْر وبقدَر، فـالله لم يغب عن الناس، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:8].
يقول ابن القيم: "وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه، وأحاط بباطنه؛ وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون" (طريق الهجرتين، جـ 1 - ص 47).
ويقول: "وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته وليس شيء في قبضة نفسه؛ فهذا أقرب لإحاطة العامة" (طريق الهجرتين، جـ1، ص 43 -44).
إن تدبّر هذه القوامة، وهذا الرزق، وهذا الحفظ، يوجب أمرًا عظيمًا وهو الذل والدينونة لله، ويوجب الشعور الدائم بأنك مدين لله تعالى في كل لحظة.
فكما تدين لله تعالى بأصل الوجود فإنك تدين له بالاستمرار ودوام اللحظات والأرزاق، وبالتالي فأنت مدين بالإغراق في الشكر لله تعالى.
إن الشكر هو الشعور الطبيعي والأول اللائق بإدراك حقيقة القيومية والرزق والإمساك، والمتابعة اللحظية في كل آن، والقيام على النفوس، والإنعام المغرق والمغدق بلا حساب في كل حين.
لو ردّ أحد عليك بصرك إن فقدته لعشت عمرك مدينًا له، فإن رد عليك سمعك ذللت له، ومن رد عليك نطقك (لتزعج الدنيا بصوتك) لدنتَ له، ولو عالج عقلك وإدراكك فصرت شخصية محترمة يُسمع لها ويوزن كلامها لكنت ممتنًا له.
فما بالك بمن أعطى كل هذا دفعة واحدة بل وأعطى أضعافه وأضعافه، وبلا حساب، بل وبلا عدّ، ولو أخذت تعد لعجزت! وهذا يوجب الذل التام والدينونة التامة والعيش منفقا كل لحظة وباذلًا إياها في الشكر لرب العالمين؟
لقد طلب الله تعالى منا الشكر، لكن الشكر هو أيضًا طلب الفطرة النظيفة وتوجهها الطبيعي. وصرف الحياة لله تعالى شكرًا على نعمه استجابة طبيعية للدينونة لله تعالى.
هذا الشكر لا يتحقق باللهج باللسان بأذكار مجردة أو بمجرد الإعتراف لله تعالى بأن هذه نعمُه، بل الشكر هو (صرف ما أُنعم عليك في مرضاة المنعم، وهو راجع إلى الإنصراف إليه بالكلية ومعنى (بالكلية) أن يكون جاريًا على مقتضى مرضاته بحسب الاستطاعة في كل حال) (الموافقات، جزء 2 - صفحة 321).
الشكر هو الثناء على الله باللسان مع الاعتراف له بالقلب مع العمل بطاعته وتوجيهها فيما يحب، هو العمل كله على وجه الشكر {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]، فيعمل العامل ووجهة عمله أنه من أجل الشكر لله تعالى.
لهذا نعبد الله وحده فهل من منعم آخر؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:3]، لهذا نعبد الله، فكما نعبد الله لأننا ملك له، فنحن نعبد الله لأنا ندين له بكل شئ في كل لحظة وكل حال، وهذا باب للولوج عليه تعالى والتربية على منهجه.
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: