خطوات في التربية - (10) العبد المدين (1)

منذ 2015-05-06

من الخطأ تصور عمل الإنسان كآلة تعمل منذ خلقها الله تعالى بلا علاقة معه، ثم تعود إليه بعد الموت، بل ثمة علاقة نابضة وحيّة مع الله تعالى ترقب العبد كل لحظة وتشمله بقدرة الله تعالى كل لحظة.

العبد المَدين (1)

إن علاقة العبد بربه تعالى لم تنته بمجرد خلقه، بل نعمه تعالى تغمره كل لحظة وقيوميته تشمله في كل آن، ولو نسي عاد به البلاء لربه تعالى {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].

من الخطأ تصور عمل الإنسان كآلة تعمل منذ خلقها الله تعالى بلا علاقة معه، ثم تعود إليه بعد الموت، بل ثمة علاقة نابضة وحيّة مع الله تعالى ترقب العبد كل لحظة وتشمله بقدرة الله تعالى كل لحظة.

هناك قدر كُتب قبل خلق السماوت والأرض بخمسين ألف سنة، وهناك قدر يكتب للجنين في بطن أمه، ينزل منه كل سنة ليلة القدر ما يكون في هذا العام، ثم هناك القدر اليومي الذي تصعد به الملائكة لرزق اليوم وعمله، ثم هناك كل لحظة هيمنة الله تعالى وقدره.

وكل هذا يعني أنك مدين في كل لحظة لله تعالى، فكيف إذن تكون حرًا في أن تترك قيده وشكره؟!

هناك شمس تشرق كل يوم وبعد أن تستأذن ـوليس خروجها آليًاـ وهناك تغير آخر كالنبات، وهناك موج يتقلب بسرعة هائلة كل لحظة، وقدر الله يشمل هذا وذاك.

يسأل العباد ربهم فيسمعهم كلهم، ويرزقهم كلهم،يطعمهم فيعمل الطعام في جوف كل عبد بإذن الله تعالى خلية خلية وذرة ذرة..فـ "هو الذي يوصل الغذاء إلى كل جزء من البدن على حدة، وعلى مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزرع" ابن تيمية مجموع الفتاوى، جـ5، صـ 479.

نبض العرق ودقة القلب وقطر السماء كل منها بإذن وقدر وعلم وهيمنة.

ولهذا المعنى العظيم والعميق والشامل جاءت الأذكار فالنوم بإذن «باسمك أموت وأحيا» واليقظة بإذن «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» (صحيح البخاري)، جـ 5 - ص 2326، برقم 5953.

الطعام بقدر وإذن «من أكل طعامًا ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقَنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، والملبس بإذن، قال: ومن لبس ثوبًا فقال الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقَنيه مِن غير حولٍ مِنِّي ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه)،

قال الألباني: "حسن دون زيادة وما تأخر".

والإيواء في بيتك كل ليلة بإذن، ولو شاء ربك لكنت طريدًا «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوى» (صحيح مسلم، جـ4، ص 2085، رقم 2715)، (فكم ممن لا كافي له ولا مؤوى) أي لا راحم ولا عاطف عليه وقيل معناه لا وطن له ولا سكن يأوي إليه.

والتعلق بالله تعالى عميق كل لحظة، عن عائشة قالت: «سلوا الله كل شيء حتى الشسع؛ فإن الله إن لم ييسره لم يتيسر» (مسند أبي يعلى، جـ8، ص 44، برقم 4560). قال حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".

وكان بكر بن عبد الله المزني يقول: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «سلوا الله حوائجكم حتى الملح» (شعب الإيمان، جـ2، ص 42، 1120). وقال هكذا: "جاء به مرسلًا".

يقول تعالى عن هيمنته المطلقة والشاملة للعباد كل لحظة وبلا اكتراث: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]، وانظر إلى قوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59]، وقوله: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَٰنِ} [الأنبياء:42]. (أي بدلًا عن الرحمن، هذا أصح القولين، مجموع الفتاوى (27/ 441).

ويقول تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، يقول الطبري رحمه الله عن قتادة: "لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض يحيى حيًا، ويميت ميتًا ويربي صغيرًا ويذل كبيرًا، وهو مسأل حاجات الصالحين ومنتهى شكواهم وصريخ الأخبار". وعن ابن عباس: "يعني مسألة عباده إياه الرزق والموت والحياة كل يوم هو في ذلك"، ويقول الطبري: "هو كل يوم في شأن خلقه فيفرج كرب ذي كرب ويرفع قومًا ويخفض آخرين وغير ذلك من شؤون خلقه"، وينقل عن عبيد بن عمير قال: "يجيب داعيًا ويعطي سائلًا أو يفك عانيًا أو يشفي سقيمًا".

ففي كل يوم شأن رباني خاص بالأحداث التفصيلية واللحظية التي تحدث لكل مخلوق، وما قاله بعض السلف في تفسير هذا {شَأْنٍ} فقد أعطى أمثلة لا على وجه الحصر بل على وجه يُقاس عليه غيره

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا} [فاطر:41]، {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84]، يروي الطبري عن ابن عباس عن عن ابن عباس قوله: {نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} يقول: "أنفاسهم التي يتنفسون في الدنيا فهي معدودة كسِنِّهم وآجالهم" (تفسير الطبري، جـ8، ص 379).

{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، يقول ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره: أفالرب الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق متضمن لها عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال رقيب عليهم لا يعزب عنه شيء أينما كانوا، كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئًا ولا يدفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرًا ولا يجلب إليهم نفعًا، كلاهما سواء؟!".

وعندما يدرك العبد هذا المعنى فسيعلم معنى اسم الله {الْقَيُّومُ} [آل عمران:2]؛ فالله قائمٌ على خلقه، وعلي كلّ ما في الوجود، وعلى هذا فأنت مدين للقيوم تعالى في كل لحظة وبكل لحظة، ولهذا تجب عليك العبودية والخروج عن الهوى والتزام أمره تعالى والوفاء له شكرًا.

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 1
  • 1
  • 1,412
المقال السابق
(9) المملوك ليس حرًا (2)
المقال التالي
(11) لماذا نعبد الله؟

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً