هل يعقب الذنب والاستغفار نعمة؟
فبرغم أخطاء المخلصين وهم يحاولون ويبذلون جهدهم، أو كانوا معذورين والناس لا تعرف، لكن لله تعالى حكمته وراء الأحداث
قد ننظر إلى أخطاء نفوسنا فنتجاوز رؤية التقصير والخطأ وما يوجبه من الاستغفار والتوبة إلى اليأس وتجاوز حد الملام، ولكن لا بد مع النظر إلى التقصير ولوم النفس والاستغفار والتوبة من أن ننظر إليها نظر أنها مربوبة بربوبية الله تعالى، وأما اليأس فمنفيّ في كتاب الله، ومنفيّ في قلب المؤمن كذلك.
ولكن المؤمن ينظر إلى الأمور كلها أنها مربوبة بربوبية الله تعالى، ولكن لهذا شرط وهو أن يرى العبد تقصيره وأن يتصل بالذنب التوبة. والمؤمن يلمح ربوبية الله تعالى في أخطاء العبيد؛ البعض يلمح أخطاء الإخوان وأخطاء د. مرسي فيقف عندها يتجاوز الحد في اللوم من أخذ الدروس واستدراك ما فرط، إلى البكاء والأحزان واليأس وإلى الإفراط في لوم إخوانه. ولكن أين ربوبية الله وراء هذه الأخطاء؟
انظر إلى هذه الأمثلة:
(1) أخطأ المسلمون يوم أُحُد وعصوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم، استُشهِد من استشهِد، وجُرح من جُرح، وأُصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. عندما ذكر الله تعالى الخطأ لم يذكره مبتورًا أو مبتوت الصلة عن ربوبية الله، بل انظر ماذا قال تعالى، قال تعالى أولا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] فهذا خطأ العباد وهو يوجب الاستغفار.
لكن الأمر لم يقف عند هذا؛ بل جاءت ربوبية الله تعالى لتُحْدث التوازن بين مسؤولية العبد وحكمة الرب؛ فقال تعالى بعدها مباشرة: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:166، 167]، فهذه حكمة. وذكر في موضع آخر حِكَمًا أخرى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140، 141]، وغير ذلك مما جاءت به الآيات، وما استقرأه أهل العلم فقرروا دروسًا من الخوف من مغبة معصية الله تعالى وتأثيرها العام على الأمة؛ فتستفيد منها الأمة إلى يوم القيامة لتعرف ماذا تفعل في لحظة الانكسار، وكيف تعرف خط الانحراف وكيفية العودة وأثر الذنب وقيمة الطاعة، وهكذا.
(2) قتل أحد ابني آدم أخاه، فكانت مصيبة، وحمل الذنب، وبرغم ذلك فكما تعلّم الإنسان كيف يقتل فقد تعلم أيضًا كيف يدفن، {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة:31].
(3) عصى آدم ربه فخرج من الجنة، وهذه معصية ترتبت عليها مصيبة، لكن المصيبة كانت مكتوبة، وأما المعصية فقد تعلمنا أن أكلة محرمة قد يخسر فيها الإنسان الكثير، كما تعلمنا أن سجدة واحدة امتنع منها إبليس لُعن وصار من أهل النار. وتعلمنا من آدم كيف يتوب وكيف يؤوب، وأن ذوق لذّة المعصية محدود، ومرارتها أبقى، وأثرها مخوف، وأنها قد تمتد في الذرية، وقد يتأثر بمصيبتها الآخرون، فأخذنا العبرة ليحزم أمره من أراد الله له الخير.
كما تعلمنا أن الاحتجاج بالقدر على الذنب -كما فعل إبليس- يُهلك صاحبه، وأن الانكسار إلى الله تعالى والتوبة هي الطريق إلى الله لا التمادي ولا الكِبْر، وتعلمنا خطورة خبيئة السوء في النفس وأن لها مواقف ستظهرها فلا بد من تطهير السر {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]، وغير ذلك من الدروس الباقية.
(4) قاتَل عليّ معاوية رضي الله عنهما وحدثت الفتنة بين الصحابة وسال الدم، فكانت من أعظم المصائب على المسلمين لأن أمر الخلافة قد وهى وضعف، بحيث لم يعد الأمر صالحًا للخلافة الراشدة، فلما وهى الأمر تحول إلى مُلْك. لكن قال بعض أهل العلم أنه لم يعرف المسلمون من أنواع القتال إلا قتال الكفار على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتال المرتدين على يد أبي بكر، وهو قتال من جنس واحد، ولم يعرفوا أحكام قتال البغاة المسلمين، الذين لم يخرجوا ببغيهم عن الملة، إلا على يد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعن جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
(5) قد يعصي الإنسان ربه فإذا ما تاب إلى الله تعالى أصبحت تجربة ينكسر بها قلبه لله تعالى واضعًا ذنبه أمام عينيه، فيعرف مدخل الشيطان إليه ومن أين يؤتى فيحترز، ويتعرف إلى عفو الله ومغفرته وكرمه وستره وصفاته الحسنى، وانفتح له من أبواب العبودية والانكسار ما لا يعرفه قبل المعصية، فرفع يديه وعرف معنى البكاء، وأصبح ضارعًا باكيًا خائفًا يرتعد مما فعل ويرجو ربه تعالى أن يدركه.. فـ(لا يرجون إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه)، وهذا مقصود؛ فكم ممن أصبح بعد التوبة خيرًا منه قبلها.
وهكذا الكثير؛ فبرغم أخطاء المخلصين وهم يحاولون ويبذلون جهدهم، أو كانوا معذورين والناس لا تعرف، لكن لله تعالى حكمته وراء الأحداث، وقد كتب الكثير في فوائد في تلك المحنة، سواء في القلوب والتربية، أو الخبرة وأخذ الدروس، أو سقوط المنافقين، أو تحرير المعركة مع الإسلام، أو تكتل الشرفاء جميعًا مقابل سقْط المجتمع وسقْط الدعاة؛ وشدة تنبئ بقدر يدبَّر وأمل قادم وخير يلوح، وفرج الله تعالى ينتظره المؤمنون، وأيد مرفوعة وعيون دامعة وقلوب مصدقة بوعد الله لا ترتاب مهما تقلبت بهم الأقدار، دماء يقدمها أصحابها رخيصة لله تعالى يتضرع صاحبها أن تقبل منه، ذاك مجروح ضارع أن يتقبل الرب تعالى، وهذا قائد يقدم فلذة كبده لله تعالى من أجل المنهج الذي يحمله فيخرج من قلبه كل غرض إلا إقامة عبوديته تعالى بلا ثمن دنيوي؛ فإن مُكّن كان أمينًا حق أمين.
إنها ربوبية الله تغمر كل مخلوق، وتغمر المؤمنين بالخير في الدارين، فإلى الله نطمئن وفيه نرجو وبه نحسن الظن؛ فنستغفر الله من كل ذنب، ونحمده على ربوبيته وحكمته تعالى.
اليوم يوم الثبات، والذب عن الدين، والتلاحم والتكاتف والانصهار، ولا تلوموا إخوانكم أكثر مما ينبغي ولا تتخطوا الحدود، فإنهم شرفاء ومخلصون ورجال صامدون يتأثر بثباتهم اليوم الدين وتنتظرهم البلاد والعباد؛ فلهم منا التأييد والمعونة، والتكاتف في الميادين، والتثبيت والدعاء، والنصح والترشيد، والذب عن أعراضهم. فلله اليوم درهم ودر كل من نزل الميدان وثبت فيه. اللهم هذا جهدنا، وبيدك الأمور، نتوكل عليك ونفوض إليك، نسألك نصرك، وتدبيرك فإنا لا نحسن التدبير، اللهم قر عيون المؤمنين بنصرك، وبفرحة من عندك، وعلو كلمتك وإحقاق وعدك، يا من لاتخلف الميعاد {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51].
مدحت القصراوي
كاتب إسلامي
- التصنيف: