النكبة الأمريكية.. رؤية شرعية

منذ 2008-11-11

فهلا قدرنا للمجاهدين حقهم وعرفنا قدرهم وقمنا بنصرهم ودعمهم؟ وحتى لا يأتي آت ويستخف بهذا الكلام أسوق ما ذكره مكتب خدمات البحث بالكونجرس الأمريكي من إحصائيات عن خسائرهم في حرب العراق فقط ....


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،،،
فإن من أصول الإيمان بالله عز وجل التي لا يصح إيمان عبد إلا بها الإيمان بأسمائه سبحانه وصفاته وآثارها والإيمان بقضائه وقدره وأنه ما من شيء يحدث في ملكوت الله عز وجل من مكروه ومحبوب إلا والله سبحانه قد كتبه وعلمه قبل حدوثه وهو الذي خلقه وأحدثه بقدرته سبحانه وحكمته البالغة التي قد يظهر للعقول شيء منها ويغيب عنها جوانب كثيرة تعجز عن إدراكها.

ومما يقضيه الله عز وجل ويقدره على عباده في هذه الأرض التي نعيش عليها بعض الكوارث من النقص في الأموال والأنفس والثمرات حيث نواصي العباد بيده ماض فيهم حكمه عدل فيهم قضاؤه.

ولكن هذه الكوارث تختلف في إصابتها والحكمة منها بالنسبة للمؤمنين عنها بالنسبة للكفار, فبينما نجدها للمؤمنين لطفاً ورحمة وتطهيراً أو تكفيراً للسيئات وتنبيهاً وتحذيراً من التمادي في المعاصي لعلهم يرجعون، فإنا نجدها للكافرين عقوبة وانتقاماً ووضع حد لكفرهم وظلمهم وبطشهم وانتصاراً من الله لعباده المؤمنين المستضعفين وتثبيتاً وإظهاراً من الله عز وجل لآثار قوته وعزته وبطشه، كما أن فيها أيضاً تنبيها للكافرين على عاقبة كفرهم وظلمهم لعل بعضهم ممن أراد الله به الخير أن يتعظ ويقلع عن كفره وظلمه.

وإن ما أراه الله لعباده في هذه الأيام من قوته وعقوبته بطاغية العصر وقارون الزمان أمريكا المتغطرسة الظالمة وحلفائها الكفرة حيث الدمار الذي يحق على اقتصادهم والهلع الذي يحل بهم من جراء ذلك لهو آية وعبرة للمعتبرين يجب أن يقف عندها المسلمون ولا سيما الدعاة منهم والمجاهدون.

ومن باب النصيحة والتواصي بالحق مع نفسي وإخواني المسلمين أسوق بعض الوقفات والوصايا في ضل هذا الحدث الجسيم علها أن تساهم في تقوية الثقة بديننا وتقوية اليقين بنصر الله عز وجل لدينه وإظهاره على الدين كله ولو كره المشركون وعلها أن تسهم في تقوية الصلة بربنا عز وجل ومعرفة أسمائه سبحانه وصفاته وآثارها. فأقول وبالله التوفيق:

الوقفة الأولى:
وجوب ربط هذه الأحداث وغيرها بمقتضى أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العلا ومقتضى سننه التي لا تتبدل، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها وتستلزمها استلزام المقتضي الموجب لموجبه ومقتضاه، فلابد من ظهور آثارها في الوجود، فإن من أسمائه: الخلاق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه الرزاق المقتضي لوجود الرزق والمرزوق، وكذلك الغفار والتواب والحكيم والعفو، وكذلك الرحمن الرحيم، وكذلك الحكم العدل إلى سائر الأسماء. ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود، والوجود متضمن لخلقه وأمره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]" أ.هـ (الصواعق المرسلة 4/1564).

ما أحوج المسلمين إلى تقوية هذه المفاهيم في قلوبهم ولا سيما في هذا الزمان الذي طغت فيه التفسيرات المادية للأحداث وأصبحنا لا نكاد نسمع في وسائل الإعلام والتوجيه والتثقيف من يربط الناس وما يجري عليهم من الأحداث بالله عز وجل وتفرده في التدبير والقوة والقدرة والقهر والحكمة والرحمة والغنا وغيرها من صفات الله عز وجل العلى وأسمائه الحسنى. كما لا نكاد نسمع من يربطها بسنن الله عز وجل في التغيير وسنته سبحانه في عقوبة العصاة والظالمين وإهلاك الكافرين، وسننه سبحانه في نصره لعباده المؤمنين وانتصاره للمستضعفين.

ولو أن هذا المنهج المادي في النظرة للأحداث قد انحصر في أهل الكفر والإلحاد لم يكنه هذا غريباً لما يعيشونه من خواء عقدي وروحي ولما يتقلبون فيه من ظلمات الكفر والتصورات وعمى القلوب والبصائر قال الله عز وجل في وصفهم: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]، فهم قد عموا عن قدرة الله وعز وجل وقهره وعما يترتب على كفرهم وظلمهم من العقوبات، وإنما الغريب أن تنتشر مثل هذه التفسيرات في إعلام المسلمين ومجتمعاتهم. ولا أدل على ذلك مما نسمعه هذه الأيام في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية من كلمات وتعليقات حول الاقتصاد في العالم العربي وبنوكه، ولا سيما الاقتصاد الخليجي وبنوكه وقولهم إننا بمنأى عن هذه الكارثة ولا خوف على البنوك الخليجية والمصارف العربية لأن مصارفنا منضبطة ومعاملات السوق المالي محكمة وغير ذلك من التبجحات التي تنبي عن الغرور بالنفس والتعلق بالأسباب المادية ونسيان قوة الله عز وجل وقهره ونسيان أن هذه البنوك تحمل معاول هدمها حسب السنن الإلهية من التعامل بالربا والبيوع المحرمة وغيرها من أسباب العقوبة والدمار وسينالها ما ينال غيرها إن لم تتب إلى الله عز وجل وتنتهي عن ظلمها وجشعها.

ولعل من المناسب هنا إيراد ذلك الحوار الذي ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم بين نوح عليه السلام وبين ابنه الكافر والذي يظهر في الفرق بين من ينظر بالميزان الإلهي للأحداث وبين من ينظر إليها بالموازين المادية الصرفة والمتمثل في ابن نوح الكافر، قال الله عز وجل: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43-42].

ففي هذا الحدث الكوني الهائل والمتمثل في ذلك الطوفان العظيم الذي غطى الأرض سهلها وجبلها وصار موجه كالجبال نرى أن نوحاً عليه الصلاة والسلام المؤمن بربه سبحانه وقدرته وقهره وتدبيره لكل شيء وحكمته وعدله ولطفه لما نظر إلى هذا الحدث العظيم بهذا الميزان الإلهي المستقيم دعا ابنه ليلحق به في السفينة لينجو من عذاب الله تعالى وحذره بأن لا يبقى مع الكافرين الذين لهم العذاب في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر. وهنا لطيفة: حيث قال نوح لابنه {ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} ولم يقل (مع الغارقين) أو (مع الهالكين) لأن المصيبة العظمى هي في الكفر وليست في الموت غرقاً. ثم إنه بهذا الميزان الإلهي للحدث قال لابنه: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} فليس ثمة اليوم إلا الله عز وجل الذي يعصم عباده المؤمنين ويرحمهم وينجيهم برحمته ومن كفر فلا عاصم ولا راحم له من دون الله عز وجل مهما فعل من الأسباب المادية للإنقاذ.

أما ابن نوح الكافر فإنه لما نظر إلى الحدث - الطوفان الهائل - بالنظرة المادية وفسره بأنه ظاهرة كونية تتمثل في طوفان وفيضان عظيم ولم يربطها بقدرة الله عز وجل وحكمته وتدبيره وسننه ما كان منه إلا أن ينظر إلى أسباب مادية يتعلق بها في نجاته فقال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}، وماذا أغنى عنه الجبل حين انقطعت عنه رحمة الله عز وجل؟ إنه لم يغن عنه شيئاً وإنما كانت عاقبته كما أخبر الله عز وجل: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43].

وأسوق فيما يلي بعض الآيات من كتاب الله ربنا سبحانه التي تبين لنا المنهج الحق والميزان العدل في التفسير الرباني لما يحدث لأعداء الله الأمريكان وحلفائهم من ظواهر كونية وكوارث اقتصادية، وهذه الآيات من الوضوح والجلاء بحيث لا نحتاج إلى تعليق ولا تفسير، ومن هذه الآيات:
• قول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

• وقوله عز وجل: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف: 59].

• وقوله سبحانه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].

• وقوله سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48].

• وقوله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31].

• وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام: 6].

• وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].

والآيات في تقرير هذه السنة الإلهية كثيرة في القرآن الكريم وإذا ما نظرنا إلى الكوارث التي تحل اليوم بالكفرة الأمريكان وحلفائهم في ضوء هذه الآيات الكريمات والتي تمثل سنة الله عز وجل في أخذه للظالمين لرأيناها تنطبق عليهم تمام الانطباق فما من ظلم وقعت فيه الأمم السابقة التي أهلكها الله عز وجل إلا وقد اجتمع في أمة الكفر المعاصرة وذلك في أعتى صوره وأبشعها ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1- كفرهم بالله عز و جل سواء الملحد منهم أو القائل بعقيدة النصارى في التثليث وتأليه عيسى عليه السلام وسعيهم في الأرض فساداً بنشر عقيدة النصارى الوثنية وتسخير المليارات للجمعيات التنصيرية لنشر الشرك والكفر في أمم الأرض.

2- الفساد الأخلاقي المريع الذي لم تصل إليه البشرية في تاريخها الماضي الطويل حيث استباحة الزنا وشرب الخمور وهتك الأعراض وتفكك الأسر بل وصل بهم الفساد والإباحية إلى أن يكون للشواذ والشاذات جنسياً جمعيات ومؤسسات مرخصة لفعل اللواط والسحاق.

3- الفساد المالي الذريع وقيام اقتصادهم على الحرية المطلقة الفوضوية والتي عمودها الربا المضاعف والبيوع المحرمة وتسلط القوي على الفقير، ونشر ذلك في أمم الأرض وإفساد اقتصادها.

4- ظلمهم لشعوب الأرض ولا سيما المسلمين في أوطانهم حيث جاءت جيوشهم الجرارة واحتلت بعض بلدان المسلمين وقتلوا النساء والأطفال وسرقوا ثرواتهم وعذبوا أبناءهم في السجون وشردوهم من ديارهم.

5- حصارهم للمسلمين في ديارهم حتى مات من جراء ذلك مليون طفل في العراق وكذلك ما قاموا به من حصار الفلسطينيين المستضعفين في غزة وقطع موارد الحياة عنهم. وسبحان الله وبحمده الذي جازاهم بجنس فعلهم فحاصرهم في ديارهم حصاراً اقتصادياً لم يجدوا منه مخرجاً.

6- القضاء على الجمعيات الخيرة المنتشرة في بلدان المسلمين وبخاصة في دول الخليج التي كانت تكفل أيتام المسلمين وفقراءهم ودعاتهم فتعطل كثير من هذه الجمعيات وتوقفت الإغاثات التي كانت تقوم بها.

7- ظلمهم للمسلمين في أديانهم وأخلاقهم حيث تدخلوا في عقائد المسلمين ومناهجهم وعقولهم وسعوا عن طريق المنافقين من المسلمين في تبديل الدين وإفساد الأخلاق بالقنوات الفضائية والإباحية.

8- ظلمهم لشعوبهم بإغراقهم بالدين والقروض الربوية التي عجزوا عنها بعد أن امتصوا دماءهم واستولوا على أملاكهم وأخرجوهم منها بعد أن عجزوا عن السداد. وأصبح 10% من طواغيت المال والربا يتحكمون في 90% من الناس في بلادهم هم تحت رحمة هؤلاء الظلمة الطواغيت.

هذه مجرد أمثلة لظلم هذه الأمة الطاغية فهل بعد هذه المظالم من ظلم، ولقد عذب الله الأمم السالفة وأهلكها بظلمها وكفرها الذي إذا قيس بظلم هذه الأمة الطاغية لا يساوي عنده شيئاً ومع ذلك فقد حلم الله عز وجل عنهم وأملى لهم إنه حليم حكيم عليم خبير. والآن نشهد بدايات عقوبة الله عز وجل لهم وانهيارهم ولعذاب الآخرة أكبر. فهل بعد هذا يسوغ لمن يتكلم عن هذه الكارثة الاقتصادية أن يغفل الأسباب الحقيقة لها وينسى سنة الله عز وجل في الظالمين {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر: 43-44].

ومع وضوح هذه الآيات ودلالتها القاطعة على سنة الله عز وجل في إهلاكه الظالمين إلا أنا نجد من المفتونين من بني جلدتنا من يرفض هذا التفسير الرباني ويسخر من أهله ومثالاً على ذلك ما كتبه محمد المحمود هداه الله في (جريدة الرياض 23/10/1429هـ العدد (14731)) حيث يقول: "ابتهج خطاب الجهل بهذه الأزمة المالية العالمية التي طالت العالم المتحضر خاصة وأن عمق الأزمة ومنشأها في الولايات المتحدة، التي يكن لها خطاب الجهل الكثير والكثير من العداء. ابتهج خطاب الجهل إلى درجة الشماتة - كسلوك بدائي ملازم له - وظن أن هذه الأزمة هي بداية النهاية لعدوه التاريخي المفترض، مطعماً كل هذه الشماتة بقراءة تقليدية بحيث تستحيل الأزمة المالية - في تفسير خطاب التقليد - إلى عقاب إلهي، يكون مقدمة لـ"الوعد الصادق" الحلم الذي يتراءى له بين اليقظة والمنام!"... فالحمد لله الذي هدانا للحق وعافانا مما ابتلى به هذا الظالم لنفسه، ونسأله سبحانه الثبات على دينه، وأن يجعل عاقبة هذه الكوارث خيراً للإسلام والمسلمين، وشراً على الكفر والكافرين.

الوقفة الثانية:
وهي امتداد للوقفة السابقة، وفيها بيان أن أسباب انهيار أمم الكفر اليوم وعلى رأسها أمريكا الطاغية قد ظهرت وانعقدت منذ عقود من الزمن ولقد سقطت وانهارت كحضارة وقيم وتماسك اجتماعي منذ عقود أيضاً وحسب سنن الله عز وجل أن سقوط الأمم والدول وتفككها وضعفها يسبقه دائماً سقوط حضارتها وقيمها وأخلاقها وقد يكون بين السقوطين عقود أيضاً ولكن أكثر الناس لا يفرق بين سقوط الدول الظالمة في تصوراتها وأخلاقها وبين سقوط بنيتها وهيكلها ويختلط عليه الأمر فتراه يقول: كم من الزمن ونحن نرى ظلم أمريكا وتحللها وفسادها وما زالت قوية مهابة ونسي أن سنة محق الكافرين هي بأجل عند الله عز وجل وهي لا بد آتيه بعد أن يزدادوا إثماً وظلما كما قال سبحانه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].

يقول الدكتور السلمي حفظه الله: "والسنة الربانية قد تستغرق وقتاً طويلاً لكي ترى متحققة في حين أن عمر الفرد محدود، ولذلك فقد لا يمكنه رؤية السنة متحققة، بل قد يرى الإنسان جانباً من السنة الربانية ثم لا تتحقق نهايتها في حياته مما قد يدفعه إلى عدم إدراك السنة أو التكذيب بها، وهنا يكون دور التاريخ في معرفة أن السنة الربانية لا بد أن تقع ولكن لما كان عمرها أطول من عمر الفرد - بل ربما أطول من أعمار أجيال - فإنها ترى متحققة من خلال التاريخ الذي يثبت أن سنة الله ثابته لا تتبدل كما قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62]" أ هـ (منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص61).

ويقول أيضاً:
"قد يرى الناس موجبات العذاب والانهيار قد حلت بأمة من الأمم ثم لا يرون زوالها بأنفسهم، وقد أوضحنا في أول الكلام عن السنن أن سنة الله لا تتخلف، لكن عمرها أطول من عمر الأفراد ولا تقع إلا بأجل محدد لابد من استيفائه، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].

وقال تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر: 4-5].

وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف: 59]" أ هـ (المصدر السابق).

والذي نراه اليوم من خلال أزمة الأمريكان وما يواجهونه من الكارثة الاقتصادية والاجتماعية أنهم بلغوا الذروة في الظلم وفي هذا بداية لسقوطهم وتفكك بنيانهم وضعفهم وانكماشهم حسب سنة الله عز وجل في إهلاك الظالمين بعد أن سقطوا كحضارة وقيم منذ عقود، ولقد صرح بذلك بعض مفكريهم وخبرائهم، يقول ديفد وركر (كبير مفتشي الحكومة الأمريكية) وهو ممسك بالملف الوطني الأمريكي كله: "إن الولايات المتحدة الأمريكية تقف الآن على حافة الهاوية وذلك في صورة سياسات وممارسات لا تطيقها البلاد تسببت في العجز الشديد في الميزانية والنقص الحاد في الرعاية الصحية وتزايد التزاماتها العسكرية الخارجية مما يهدد باندلاع أزمة طاحنة. إن وضع البلاد يشبه وضع (روما) القديمة قبل احتراقها وانهيارها".

وقال الفيلسوف البريطاني (جون غراي) معلقاً على الأزمة الاقتصادية: "ما نراه اليوم هو تحول تاريخي لا رجعة عنه في موازين القوى العالمية نتيجته النهائية أن عصر القيادة الأمريكية للعالم قد ولى إلى غير رجعة".

وإن انهيار أي أمة اقتصادياً يعني انهيارها سياسياً واجتماعياً وعسكرياً لأن اقتصاد أي أمة يعد عمودها الفقري وإذا سقط العمود الفقري أصاب الشلل جميع الأطراف. إذًا فالذي أصاب أمريكا الآن ليس كارثة مالية فحسب وإنما هي ريح صرصر عاتية سخرها الله عليها لتأذن بنهاية المتكبرين والمتجبرين ودمارهم بإذن الله تعالى.

الوقفة الثالثة: كيف وقع الانهيار؟
بعد أن علمنا السبب الحقيقي لانهيار أمة الكفر اقتصادياً من خلال الآيات القرآنية السالفة الذكر ومن معرفة سنة الله عز وجل في إهلاك الظالمين، نتعرف في هذه الوقفة وبصورة سريعة على ما أجراه الله عز وجل على أيدي الكفرة أنفسهم من السياسات والممارسات الجائرة التي دمروا بها أنفسهم، وأخربوا بيوتهم بأيديهم بتبنيهم النظام الرأسمالي الربوي المتوحش، وهذا ضرب من عذاب الله عز وجل وجند من جنده سبحانه سلطه عليهم، وإن هذا الإعصار العاتي عليهم ليس وليد اللحظة وإنما هو وليد نظامها السياسي والاقتصادي القائمين على الظلم الذي لا يعرف الرحمة ولا الشفقة وذلك نتيجة تراكم العمل بالنظام الاقتصادي الليبرالي خلال عقود مضت.

وإن ما يحدث الآن عبارة عن نتيجة حتمية لسياسات ظالمة تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية بلغت ذروتها في الثمان سنوات التي حكم فيها بوش. وهي مؤشر لنهاية النظام الرأسمالي المتوحش ونهاية للهيمنة الأمريكية. ومن الأمثلة على هذه السياسات الظالمة التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير والتي تعصف بالاقتصاد الأمريكي:
1-أزمة الرهن العقاري والقروض الربوية: حيث كانت المؤسسات المالية تعطي قروضاً لتمليك لعقار للمواطن العادي الذي أصبح عاجزاً عن أن يسد هذه القروض بفوائدها الربوية التي قد تبلغ إلى 105% فحصل فشل في جمع هذه الأموال من المواطنين فاستولت البنوك المقرضة على البيوت وباعت بعض البنوك قروضها إلى بنوك أقوى منها بالتخفيض على البنوك القوية التي باعت بدورها هذه القروض إلى بنوك أقوى منها وهكذا حتى خرج البيع إلى أوربا ومناطق أخرى من العالم ثم لم يستطع الجميع استرداد هذه القروض فحصل العجز في السيولة وانهارت كثير من المصارف والبنوك وفي الوقت نفسه حرم المواطنون من بيوتهم وأخرج بعضهم منها وحصلت مشاكل اجتماعية كبيرة من جراء ذلك وصلت إلى القتل والانتحارات، وبيع بعض البيوت بثمن بخس أقل من قيمتها الحقيقية فحصل العجز في السيولة.

2- أزمة سوق الإقراض الطلابي.

3- وأزمة إقراض السيارات.

4- وأزمة البطاقات الائتمانية بدون ضمانات.

وكل هذه الأزمات شبيهة بأزمة الرهن العقاري حيث عجز الطلاب عن تسديد ما عليهم للبطالة وعدم العمل وأصحاب السيارات والبطاقات الائتمانية كذلك. وكان من جشع هذه المؤسسات الإقراضية أنها تركت الضمانات لجذب الناس فحصل ما حصل من عجز الناس وانهيار هذه المؤسسات لفقد السيولة.
كل ذلك من شؤم الربا المضاعف المتوحش والجشع المريع.

5-الإنفاق على حرب العراق وأفغانستان ومحاربة الإرهاب:: حيث أنفقوا مئات المليارات من الدولارات في ذلك وسيأتي تفصيل هذه الأرقام في وقفة تالية إن شاء الله تعالى.

6-فتح الباب والحرية الاقتصادية المتوحشة لجميع المؤسسات المالية والبنكية والشركات المساهمة دون رقيب ولا حسيب مما جعل هذه المؤسسات الاقتصادية مكاناً للمضاربات والمقامرات والمغامرات الاقتصادية وصناعة اقتصاد وهمي سهل الكسب فهي أموال طازجة ساخنة وأرباح بالساعة واليوم بل في نفس اللحظة، قبل أن تبرد كعكة القمار.

فالأمر لا يتعلق بمتاجرة في سلع خدمية تباع ويحصل عليها مقابل ثمن معين ولا بسلعة إنتاجية تحتاج إلى تكاليف إنتاج مدة زمنية لإنتاجها وتخزينها ثم بيعها، وقد يصل مدة التسويق إلى عام أو أكثر حتى يتبين الربح فيها من الخسارة. وإنما الأمر في هذه الأسواق يتعلق بسلع وهمية معظم الذين يتاجرون فيها لا يملكونها، وقد تتم صفقات ضخمة بالمليارات لشراء أسهم وبيعها بفارق زمني يسير قد يكون في بعض الأحيان دقائق أو ساعات قبل أن يدفع ثمنها المشتري وقبل أن يقبضها وتسجل باسمه رسمياً فيحقق أرباحاً طائلة دون أن يدفع سنتاً واحداً. وهكذا يتحكم كبار المتعاملين في البورصات ويحققون أرباحاً هائلة من الاستثمارات بأموال وهمية وإضافة إلى ذلك أصبحت القيمة السوقية لهذه البورصات والأسهم لا تمثل القيمة الحقيقية لها. فقيمة الأسهم المتداولة فيها لا يساوي قيمة الموجودات والأصول الحقيقية لهذه الشركات فأصبح هناك أرقاماً هائلة من المال هي وهمية فإذا أخذ هذا على مستوى البنوك والمصارف والمؤسسات المالية العملاقة في أمريكا نجد أن قيمة هذا الفرق الوهمي يفوق كثيراً مجموع الدخل القومي الأمريكي بما فيه الجهاز المصرفي الأمريكي وهذا من أسباب الكارثة وهذا السبب المشار إليه هو سبب كل كارثة أو خسارة مالية تحصل في تجارة الأسهم في أي بلد من بلدان العالم، فهل يعتبر المسلمون في بلادنا ويدعوا المقامرة بأموالهم التي تجلب سخط الله عز وجل ومحق أموالهم؟

7-الكساد الاقتصادي: وهو نتيجة للأسباب السابقة كلها حيث أن انحسار المال واختفاؤه وقلة السيولة في أيدي الناس ينتج عنه الإحجام عن الشراء وضعف الإنفاق، وهذا بدوره يؤدي إلى كساد المصانع وضعف الإنتاج وتكثر بذلك البطالة والجرائم ومن هنا تبدأ الكوارث المالية والاجتماعية.

الوقفة الرابعة: آن لنا أن نعرف قدر الجهاد والمجاهدين
لقد خرجت أمريكا من ديارها بطراً وكبراً ورئاء الناس وهم يقولون من أشد منا قوة؟ فاستباحت ديار المسلمين واحتلت أفغانستان والعراق وبشروا بمشروع الشرق الأوسط الكبير زاعمين أنهم سيجعلون العالم أكثر أمناً واستقراراً، فغدا أشد خوفاً ورعباً وأنهم سيضعونه أكثر رفاهاً فغدا أشد فقراً.

وكانوا يظنون أن احتلال هذين البلدين سيكون نزهة سريعة يعودون بعدها بالثروات العظيمة من الغاز الطبيعي في أفغانستان وحقول النفط في العراق والخليج وسيعودون بآلاف المليارات التي تعوض خسائرهم وها هم يدخلون في سنتهم الثامنة لغزوهم.

وها هي غطرستهم وقوتهم وكبريائهم تتحطم وتنهار على يد من احتقرتهم في أفغانستان وسخرت منهم في العراق، وأصبح المجاهدون على ضعفهم وقلة الناصر لهم غصة في حلوقهم تلحقهم الهزائم منهم يوماً بعد يوم حتى قصمهم الله عز وجل بهذا الانهيار المريع انتصاراً منه سبحانه لعباده المؤمنين، فجزى الله المجاهدين عنا وعن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها خير الجزاء، فلقد كانوا سبباً رئيساً فيما لحق ويلحق بالأمريكان وحلفائهم من الهزائم والانهيارات المتلاحقة والحمد لله..

فهلا قدرنا للمجاهدين حقهم وعرفنا قدرهم وقمنا بنصرهم ودعمهم؟
وحتى لا يأتي آت ويستخف بهذا الكلام أسوق ما ذكره مكتب خدمات البحث بالكونجرس الأمريكي من إحصائيات عن خسائرهم في حرب العراق فقط، وذلك في مجلة الفورن بوليسي (نقلاً عن قناة الجزيرة):
في عام 2003 كانت الخسائر (93000 دولار) كل دقيقة.

في عام 2004 كانت الخسائر (111000 دولار) كل دقيقة.

في عام 2005 كانت الخسائر (164000 دولار) كل دقيقة.

في عام 2006 كانت الخسائر (188000 دولار) كل دقيقة.

في عام 2007 كانت الخسائر (245000 دولار) كل دقيقة.

في عام 2008 كانت الخسائر (371000 دولار) كل دقيقة.

أي ما يقارب مجموعه (700 مليار دولار).

مع أن الخبير الاقتصادي الأمريكي (جوزيف ستيجليتر) قدرها بأكثر من ذلك بكثير حيث أوصلها إلى (3 ترليون دولار).

أما إحصائيات حربهم المزعومة على الإرهاب حسب ما جاء في المجلة نفسها فهي كالتالي:
في عام 2001 كانت 18 مليار دولار.

في عام 2002 كانت 13 مليار دولار.

في عام 2003 كانت 54 مليار دولار.

في عام 2004 كانت 74 مليار دولار.

في عام 2005 كانت 100 مليار دولار.

في عام 2006 كانت 116 مليار دولار.

في عام 2007 كانت 166 مليار دولار.

في عام 2008 كانت 195 مليار دولار.

أي ما مجموعه (736 مليار دولار)...

وقد كانوا يعلمون أن هذه الأموال الهائلة ستؤثر على هيكلة الاقتصاد الأمريكي كله وأنه سيكون على حساب الإنتاج المدني الداخلي ولكنهم كانوا يراهنون على أن احتلال أفغانستان والعراق سيكون سريعاً وسيعوضون خسائرهم بوقت سريع، فلم يمهلهم المجاهدون ليستردوا ذلك، وها هي السنة الثامنة وهم يسيرون من هزيمة إلى هزيمة، وهذا من رحمة الله عز وجل وفضله ثم فضل الجهاد وما قام به المجاهدون الأبطال من مقارعة القوم والإثخان فيهم وردهم على أعقابهم خائبين.

وقد كانوا مغرورين بقوتهم ناسين قوة الله عز وجل فأنساهم سبحانه وأغفلهم عما يترتب على حماقاتهم من الكوارث والانهيارات فدفعهم الله عز وجل دفعاً إلى نهايتهم {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 17].

ولقد حق عليهم قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].

الوقفة الخامسة:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. إن الهداية لدين الإسلام وعقيدته وأحكامه الشريفة التي تقوم بها مصالح العباد في الدارين لهي أعظم نعمة ينعم بها الله على عباده المؤمنين، الأمر الذي ينبغي أن يُحمد الله عز وجل ويشكر عليها بالقلب واللسان والعمل وأن يفرح به الفرح العظيم الذي يهون عنده أي فرح، وذلك كما أمرنا الله عز وجل في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58،57].

وإن مما يعظم قدر هذه النعمة ويشتد الفرح بها رؤية من حرمها وهو يتخبط في ظلمات الشرك والظلم والأحكام الظالمة الجاهلة. وها هي الثمار الحنظلية للجاهلية المعاصرة تبدوا للعيان وها هم أهلها يتخبطون كالممسوس، يخربون بيوتهم بأيديهم ونظمهم المدمرة. ومثالاً لذلك ما ظهر فيهم من الأزمات المالية التي من أعظم أسبابها أكلهم للربا الذي حرمه الله عز وجل أضعافاً مضاعفة فحصل لهم المحق الذي كتبه الله عز وجل على أهله {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].

وها هم خبراؤهم يصيحون ويحذرون من الربا وينادون بالأخذ بنظام الإسلام المالي ويرجعون أسباب أزمتهم وسقوط النظام الرأسمالي بسببه. والمؤمن لا يحتاج إلى أن يجرب أحكام ربه بل هو مستسلم لربه عز وجل عابد له يوقن بأن لا أحسن من حكم الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

ولكن هذا الانهيار يزيد إيمان المؤمن ويقوي ضعيف الإيمان وينبه المخدوعين بالغرب ونظمه لعلهم يرجعون.

وهنا مسألة يجدر الإشارة إليها ألا وهي أن الغرب ولو أخذ جدلاً بالنظام الاقتصادي الإسلام في بعض مؤسساته فإن هذا لن يحل أزمته ولن ينقذه من انهياره ذلك أن الإسلام يعني الاستسلام لله عز وجل في كل شيء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208].

ولا ينفع الإنسان أخذه بشيء من الإسلام علاجاً وإنقاذاً لمصلحة له منهارة وليس انطلاقاً من عبودية لله عز وجل وانقياداً لأحكامه. هذا أمر، والأمر الآخر أن أخذ الغرب أو بعض بنوكنا المحلية بالنظام الإسلامي وإلغاء الربا أمر حسن لكنه ليس حلاً لأصل الكارثة ولن يستفاد من ذلك شيء يذكر، ذلك أن الاقتصاد المعاصر معقد ومتشابك، فلو سلمنا جدلاً أن أسلمنا اقتصاد المصارف فأين أسلمة القطاعات الكبيرة المرتبطة بدورة المال في البنوك؟، أين أسلمة القطاع الصناعي؟، وأين أسلمة القطاع الزراعي والخدمي وشركات التأمين، والبنوك المركزية ومؤسسات النقد؟، لأن كل هذه القطاعات متورطة بآفة الربا والعقود المحرمة، لذا يجب أن ننقاد للإسلام كافة وأن نقدمه للغرب كل لا يتجزأ بداية من تحقيق التوحيد والعبودية لله عز وجل وإبراز أحكامه ونظمه وما فيها من المحاسن العظيمة التي يجب الأخذ بها تعبداً لله تعالى قبل كل شيء وليس لحل ورطة وكارثة نازلة، وأن نسعى جاهدين لتوظيف هذا الحدث في بيان شمولية الإسلام وعدله وأن فيه حل لكل المعضلات والكوارث وليس للجانب الاقتصادي فقط.

يقول الأستاذ أسامة عبدالرحيم: "إن الغرب قد قطع شوطاً في محاولة إقناع المسلمين أو جبرهم عن التحول بعيداً عن شريعتهم ومنها الشق الاقتصادي وما دعواته الآن إلا إسفنجة يمتص بها الصدمة ويسري بها قليلاً عن المرابين المكلومين من بني الأصفر.

فهل سنطالبهم بتطبيق أحكام الشريعة وهم غير مؤمنين بها، ونتوقع أن يتحاكموا إليها فيما شجر بينهم وهم محادين لها. يلزمنا أن نحملهم أولاً على الإيمان بتلك الشريعة وتعظيم أحكامها، الذي هو تعظيم لمن نزلها وهو الله سبحانه وتعظيم من أنزلت عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيم للكتاب الذي نزل بأحكامها وهو القرآن الكريم.

ولربما غاب عن أذهان البعض أن الذي دفع بأبنائه الأمريكان في أتون محرقة دموية في العراق وأفغانستان، أكلت أكثر مما أكلت عاصفة الرهن العقاري، وأنفق البلايين على التنصير في عقر دار الإسلام، وصنف النظريات الوضعية وسكبها ترغيباً وترهيباً في عقول نخبة المتغربين، ويؤازر أنظمة حكم فاسدة ومستبدة، لن يطبق شيئاً من شريعتنا، لأن هذا ببساطة انتصاراً للإسلام بغير حرب، وفتحاً لقلوب الملايين من أبناء أوربا لدين الله ولن يرضى بذلك اليهود ولا النصارى حتى نتبع ملتهم" (انظر موقع لواء الإسلام).

الوقفة السادسة: وتصدعت قبلة الليبراليين
وأعني بالليبراليين أولئك المنادين بالليبرالية في بلدان المسلمين بأنواعها الأربعة الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والليبرالية الفردية والتي كلاً منها يقوم على الحرية المطلقة دون أن يقيدها شرع أو غيره، والكلام على هذه الصور من الليبرالية لها مقام آخر، أما الذي يهمنا هنا فهو الليبرالية الاقتصادية التي يقوم عليها النظام الرأسمالي المتوحش والتي تقول: "اكسب من أي شيء شئت وأنفق حيث شئت" أو بعبارتهم المشهورة: "دعه يعمل دعه يمر".

وها هي الآن تترنح وتتهاوى وبسقوطها ينتهي عصر القطب الواحد أمريكا وتسقط قوته وهيمنته وبسقوطها يسقط إن شاء الله دعاة الليبرالية والمجموعات التغريبية في البلاد العربية الإسلامية والتي ربطت مصيرها بمصير أمريكا وتطاولت على الثوابت الإسلامية والاجتماعية. وظنت أن الهيمنة الأمريكية فرصة سانحة لتغيير عقائد الناس وأخلاقهم وقيمهم ولو بالقوة، والاعتماد على الضغوط الأمريكية على الحكومات العربية الضعيفة في فرض أنماط التغريب على المجتمع من خلال قرارات سيادية في المجتمع الإسلامي مثل إلغاء التحاكم إلى الشريعة الإسلامية وإلغاء الولاء والبراء وتغريب المرأة، وتغيير المناهج، ومحاصرة العمل الخيري وغير ذلك.

وها هو أحد المغرمين بحب أمريكا يتباكى على ما أصابها ويدافع عنها ويرى أن وجودها ضمانة حقيقية للأمن العالمي: يقول محمد المحمود في (جريدة الرياض العدد (14731) وتاريخ 23/10/1429هـ): "صحيح أن تراجع الاقتصاد الأمريكي قد يؤدي إلى ضمور النفوذ الأمريكي، وعدم قدرته على الفعل الحاسم خارج حدود أمريكا. قد يحدث هذا أو شيء من هذا القبيل، فيما لو حدث كساد حاد لكن هذا ليس في صالح أي من دول العالم التي تريد أن تعيش في سلام. فأمريكا رغم كل شيء ورغم كل الأخطاء، هي في النهاية قوة وإيجابية، وضمانة حقيقة للأمن العالمي، وبدونها قد ينهار نظام الأمن في العالم فلا تستطيع الدول - باستثناء دولتين أو ثلاث - أن تضمن حدودها، ولا أن تحمي نفسها مما يشبه شريعة الغاب.

ما لا يريد أن يعترف به التقليديون والغوغائيون أن أمريكا هي أقل الإمبراطوريات عبر التاريخ إضراراً بالآخرين، وأن أخطاءها - رغم كل ما يقال - أقل بكثير من أخطاء الآخرين. بل إن العائد الإيجابي الأممي للقوة الأمريكية، يفوق كل ما قدمته الإمبراطوريات عبر التاريخ البشري كله وهي حقائق يعرفها الجميع ومع هذا يحنق عليها الجميع؛ لأن ضريبة النجاح والتفوق تفرض مثل هذا السلوك وخاصة من قبل أولئك الفاشلين الذين لا يملكون إلا جذوة الحسد السلبي الذي نراه منهم في عبارات الشماتة الجوفاء"... فالحمد لله على العافية.

الوقفة السابعة: هل يفرح المسلم بما أصاب الأمريكان وحلفاءهم من الانهيارات؟
لم أكن لأدرج هذه الوقفة من ضمن هذه الوقفات لولا أن سمعت هذا السؤال طرح في أحد المجالس بل لقد رأيت مقالة لأحد الكتاب ينتقد فيها الفرحين من المسلمين بهذه الكوارث التي تحل بالأعداء!!، وهذا أمر مستغرب مستنكر إذ كيف لا يفرح المسلم بالانهيار الاقتصادي والذي يتلوه الانهيار العسكري والسياسي إن شاء الله تعالى لدولة الكفر والطغيان أمريكا والتي ما فتأت تسوم المسلمين سوء العذاب تحتل ديارهم وتفسد دينهم وأخلاقهم وأعراضهم وتعذب وتقتل أبناءهم وتفسد اقتصادهم وتمنع مؤسساتهم الخيرية، وما تركت ضرورة من الضروريات الخمس في هذا الدين إلا وألحقت به الفساد؟، كيف لا نفرح بهزيمتها وانهيارها وكف شرها وهذه فعائلها؟، ألم يكن المسلمون في بلاء ومحنة عظيمة بسببها؟، ألم يكونوا يدعون عليها في الليل والنهار بالدمار والانهيار؟، إذًا لماذا لما انتصر الله عز وجل لعباده المستضعفين وسلط عليها الكوارث صار بعضنا في حرج من فرحة بانهيار الطغيان؟، ألم يقل الله عز وجل عن انتصار الروم على الفرس في العهد النبوي وهما أمتان كافرتان {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} [سورة الروم: 4-5] وذلك لأن ضرر الروم أهون على المسلمين من ضرر الفرس. وقد يقول قائل: إن الضرر من هذا الانهيار سيلحق بعض المسلمين وبعض مؤسساتهم المالية التي يستثمرون فيها أموالهم لدى الغرب.

وهنا نقول: إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وما يصيب المسلمين في أموالهم المودعة أو المستثمرة في الخارج إنما هو جزاء وفاقاً على دعمهم لاقتصاد الغرب في ديارهم وعلى أخذهم الربا أو إعطائه للبنوك الغربية في التعاملات المالية. ويقدر المال السعودي المستثمر في الغرب بما قيمته (1500 مليار دولار)!!

وسيصل شؤم الربا إلى كل مصرف ومستثمر يتعامل بالربا في كل بلد، أما المسلم السالم من هذه اللوثات فهو أقل الناس تضرراً إن تضرر، والمقصود أن المصالح العظيمة التي يجنيها المسلمون من سقوط أمريكا وحلفائها من الثقل والكثرة بحيث ترجح وبشدة بما ينال المسلمين فيها من الأضرار هذا إذا اتعظ المسلمون من هذا الحدث ورجعوا إلى ربهم وتركوا أسباب سخطه أما أن استمروا على أحوالهم وتمادوا في عصيانهم فإن هذا هو الأمر المخيف والمحزن والذي لا يفرح به أي مسلم، وهذا هو الذي أبكى أبا الدرداء رضي الله عنه وهو يرى سقوط قبرص في أيدي المسلمين وأسر من فيها من الكفار. وقد ظن من رآه يبكي أنه يبكي حزناً على الكافرين وسقوطهم وهزيمتهم ولكنه بين سبب بكائه بأنه يخاف أن يحل بالمسلمين ما حل بهؤلاء الكفار إن هم عصوا ربهم. عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض ورأيت أبا الدرداء وحده يبكي فقلت يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره.. بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك فتركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.

الوقفة الثامنة: وصايا متفرقة
الوصية الأولى:
إلى عامة المسلمين بأن يتعظوا من نزول هذه الكوارث بالكفار بسبب كفرهم وظلمهم وأكلهم الربا أضعافاً مضاعفة. والله عز وجل ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا طاعته وهو سبحانه لا يحابي أحداً في سننه، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 51].

فلعل مثل هذه الأزمات أن ترد المسلمين إلى دينهم الذي هو كله خير ومصلحة للعباد في الدارين فإن أرجعتهم هذه الأحداث إلى ربهم فتركوا معاصيه وأطاعوه وتركوا ظلم العباد في أموالهم وتركوا ما هم عليه من لهو ومجون فإن هذه الأحداث تعد خيراً للمسلمين وإن لم يتعظوا بما حل بغيرهم فإن هذا نذير شر وسوء عاقبة قال الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]،
ومر بنا آنفاً قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره".

الوصية الثانية: إلى تجار المسلمين وأصحاب البنوك والمؤسسات المالية المتعاملين بالربا
نذكرهم بموعظة الله عز وجل في قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، فهذه موعظة الله عز وجل العليم بمصالح خلقه وما يضرهم.

والواجب على المسلم أن يستسلم لأمر ربه عز وجل ويقبل موعظته سبحانه وتعالى بمجرد الأمر والنهي فكيف وقد ظهرت عقوبة الله عز وجل في أكلة الربا في هذا الانهيار المريع، إنه لا عذر للمتورطين في الربا سواء كانوا أفراداً أو بنوكاً أو مؤسسات استثمارية بعد هذه الانهيارات التي هي مصداق قول الله عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].

ومن لم يتب ويقلع عن تعاطيه الربا بعد هذه النذر فلا ندري متى سيتوب؟ إنه يخشى على من هذه حاله أن يدخل تحت قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:43-45].

الوصية الثالثة: إلى المفتين في فقه المعاملات المالية:
وأكتفي في هذه الوصية بما أوصى به الأستاذ هيثم حداد - وفقه الله تعالى- هؤلاء المفتين في مقاله النفيس (أزمة المال دعوة لمراجعة منهجنا الفقهي) اقتطف منه بعض المقتطفات بشيء من التصرف وإعادة الترتيب، يقول حفظه الله تعالى:
"يكاد يجمع أولئك الغربيون الكفار الذين تكلموا عن الأزمة أن أهم أسبابها هو ما يعرف عند الاقتصاديين بصناعة المال، Creation of money أي صناعة مال وهمي، وهذا هو أسس النظام الاقتصادي الربوي الحالي الذي يمسك بزمامه البنوك، بل إن تاريخ إنشاء البنوك - كما هو معروف - يرجع إلى هذه الفكرة التي يقوم البنك من خلالها بإقراض أموال تفوق ما يملك حقيقة بشكل كبير جداً.

وتأمل أخي القارئ في تاريخ جميع الهزات أو الكوارث الاقتصادية التي ضربت بقاع شتى من العالم تجدها ترجع إلى هذا السبب مع السبب الآخر. الربا. بل إن الضربات التي تلقتها أسواق المال - في العالم الإسلامي - بدءاً من سوق المناخ الكويتي إلى أسواق أسهم السعودية ترجع إلى هذا السبب...

ومما زاد المأساة عمقاً أن اتجاه عدد من المشايخ وطلبة العلم - لا سيما بعد أحداث سبتمبر - هو اتجاه التسويغ والإباحة، وحشد الأدلة لذلك أو محاولة الالتفاف عليها بالتقاط ما يناسبهم من أقوال الفقهاء والتلفيق بينها، وتكرس هذا النهج عند كثير من المشتغلين في فقه المعاملات المالية، بل ربما ارتفعت أصوات بعضهم في النكير على من استصحب الكليات الاقتصادية، والكليات المقاصدية في باب المعاملات المالية، عند الحديث عن آحاد المسائل التجارية، والاقتصادية، والمالية، فكان ينظر بتوجس لهذه الأدوات المالية الحديثة، وينظر بتوجس أكبر تجاه تطبيقات ما يسمى بالبنوك الإسلامية لها...

وكل مهتم بشأن الاقتصاد الإسلامي يدرك أنه ثمة اتهامات كثيرة توجه إلى الاقتصاد الإسلامي، حتى أن البعض يتهمه بأنه حيلة وخداع، وبعيداً عن هذا الجدل، إلا أننا نقر بان كثيراً من القطاعات المصرفية الإسلامية ليس لها من الاقتصاد الإسلامي إلا الصور الشكلية أو الأسماء المنحوتة، بدءاً من الاقتصاد الإسلامي، وانتهاء بأسماء المنتجات الأخرى. أما المضمون والمحتوى فإنه بعيد كل البعد عن روعة وجلال هذا النظام الرباني الفريد، لكن السؤال الأهم هو من الذي "غلف" تلك المنتجات غير الإسلامية، بغلاف إسلامي، ومن الذي سوغ ذلك؟ لا شك أن كل منتج إسلامي لا يكتسب هذا الاسم إلا إذا تترس خلف بعض " أسماء العلماء " أو الأسماء العلمية المعروفة على الساحة الاقتصادية الإسلامية، فهي التي أصدرت تلك الفتاوى التي تنص على مطابقة هذا المنتج أو ذلك للشريعة الإسلامية، وهذه الثلة من العلماء اتبعت نهجاً علمياً في تناول أحكام هذه المعاملات أدى إلى بروز هذا الخديج، والذي سمي إسلامياً، ولا يتسع المجال لبيان معالم هذا النهج، لكن من أهم أسسه، التنقيب عمن قال بالجواز، تلفيق الأقوال، النظر إلى جزئيات المسائل دون كليات المسألة، سيطرة الرغبة في الإباحة خوفاً من الاتهام بالتشدد، محاكاة النظم والمنتجات الغربية وهكذا، وأهم مثال على هذا هو تساهل كثير من العلماء وبالتالي المنتجون لأدوات الاستثمار أو الإقراض الإسلامية في مسألة القبض الحقيقي، فالمرابحة - والتي لا يكاد يخلوا منها منتج أو معاملة إسلامية - أصبحت صورية، شكلية تخلوا من أي قبض حقيقي، زعماً بأن بعض أقوال المذاهب توسعت في مسألة القبض، ومعاملات الأسهم جلها يعتمد على تجاوز قضية القبض، مع أن جل هؤلاء الشرعيين يصنفون الأسهم على أنها جزء مشاع من الشركة، ولا أظن أحداً من إخواننا المتجرين بالأسهم يظن أنه قد امتلك يوماً من الأيام جزءاً من الأصول الثابتة لشركة ما...

إن التقابض مع أهميته هذه فقد بدأ كثير من المشتغلين بالاقتصاد الإسلامي والإفتاء التساهل في مراعاة أحكامه. وتشريعه معجزة ربانية...

والاقتصاديون الإسلاميون استحوذ على تفكير الكثير منهم العمل على إثبات إباحة بعض المعاملات الاقتصادية، وحشد الأدلة الفقهية والأصولية لجواز التعامل بالأسهم مثلاً، والبعض الآخر مشغول بتقسيم الأسهم إلى نظيفة ومختلطة ومحرمة، وقليل منهم مشتغل بنقد النظام المالي الحالي، ومن هو مشتغل منه بذلك فإنه عاجز عن إيجاد رؤية اقتصادية سياسية تستثمر هذا النظام المهترئ الذي هو عرضة للسقوط في بعث الروح في النظام الاقتصادي الإسلامي فضلاً عن المساهمة في إيجاد رؤية إستراتيجية لإصلاح أحوال هذه الأمة المنكوبة..

كنت أتمنى أن يعي بعض الإخوة من طلبة العلم والمشايخ أن الأمر أكبر من مجرد إباحة إجراء في معاملة أو إباحة المعاملة نفسها لأن فريقاً من الفقهاء قال بها، وأنها تساهم في التخفيف عن الناس، وكم أتمنى أن تكون هذه الكارثة الاقتصادية، تنبيها لجميع المشتغلين بالاقتصاد الإسلامي بما فيهم طلبة العلم والمشايخ على أن الوقت قد حان لتحرير عقولنا أولاً من هذا النهج، والميل إلى الصرامة في اتباع أوامر الحكيم الخبير، لا سيما في مثل هذه القضايا التي تمس عموم الخلق..

هل تكون هذه الأزمة مفتاحاً لتغيير حقيقي في تناولنا لأحكام الشريعة الإسلامية، نسأل الله ذلك". (عن موقع المسلم في 18/10/29هـ).

الوصية الرابعة / إلى دعاة الأمة ومجاهديها
أُجمل هذه الوصايا في النقاط التالية:
* إن المستقبل لدين الإسلام بإذن الله تعالى وما هذا الانهيار الذي حل بالكفار المعتدين وظهور رايات الجهاد في أكثر من بلد إلا من بشائر الظهور لهذا الدين وأهله، ولكن بشرط أن يكون الدعاة والمجاهدون على مستوى هذه الغاية الشريفة في صحة الفهم والاعتقاد، وحسن القصد وصفاء النيات ووحدة الصف ونبذ الفرقة والاختلاف والاستعانة بالله وحده مع الأخذ بالأسباب. لذا يجب أن نحاسب أنفسنا ونكمل ما نقصها من شروط النصر والتمكين، لعل الله عز وجل أن يظهر دينه ويمكن لأوليائه على أنقاض الإمبراطورية الأمريكية التي بدت علامات انهيارها.

وعلى الدعاة أن يبثوا هذا الأمل في الأمة ويحيوها من سباتها ويأسها. ومن الغريب ما يتردد على لسان كثير من المفكرين والمحللين السياسيين من السؤال عمن سيخلف القطب الأمريكي بعد انهياره فبعضهم - ومنهم بعض الإسلاميين - يرى أن الصين هي المرشحة لذلك وبعضهم يرى الهند وبعضهم يرى عودة الروس إلى قوتهم، ولم نر من قال إن المرشح هو الإسلام ودولته السنية وما ذاك إلا من الهزيمة النفسية التي تراكمت على كثير من المسلمين حتى وصلت بهم إلى حالة من اليأس والإحباط.

وهنا يأتي دور الدعاة والمجاهدين في إحياء الأمة وتغيير هذه النفسية وبث الأمل والعزة فيها نظرياً بالكتابة والدرس والخطابة والتربية العلمية على ذلك. وعملياً بالدعوة والتضحيات وتكاتف جهود الدعاة والمجاهدين في الدعوة إلى الله عز وجل ونصراً ودعماً للمجاهدين في سبيل الله عز وجل.

* توظيف هذه الأزمات المالية في نصح الأمة وبيان عظمة هذا الدين وأحكامه الشرعية ومن ذلك تحريم الربا ووعظها في ترك ما يسخط الله عز وجل ولا سيما في مجال المال والاقتصاد والاتعاظ بما حل بالكفرة المرابين وبما حل بأهل المقامرة في الأموال الوهمية المتاجرين بالأسهم التي ليس لها غطاء حقيقي من المال أو ينقصها التقابض الشرعي الذي هو من شروط البيع والشراء.

* تقوية عبادة التوكل على الله عز وجل في قلوب الناس ولا سيما في أجواء هذه الكوارث المالية التي غالباً ما يصاحبها الهلع والخوف على الرزق والمستقبل مما يدفع بكثير من الناس إلى التعلق الشديد بالأسباب ونسيان مسببها عز وجل. وهنا يأتي دور الدعاة وأهل العلم في تطمين الأمة وربطها بالخالق الرازق الرحيم اللطيف سبحانه وتعالى، وإحسان الظن به عز وجل وأنه هو الغني الحميد الضامن لرزق عباده وهو مسبب الأسباب إن شاء نفع بها إن لم يشأ لم تنفع.

ومن إحسان الظن به سبحانه الاطمئنان إلى أن عاقبة هذه الأزمات ستكون خيراً وعزة للإسلام والمسلمين إن شاء الله تعالى ولو ظهر ما ظهر فيها من بعض الأضرار التي تلحق ببعض المسلمين المتورطين في الربا تكفيراً لهم وموعظة لهم ولغيرهم.

* الاهتمام والعناية بتربية النفس وتقوية الصلة بالله عز وجل والتواصي على ذلك ولا سيما في مثل هذه الأوقات التي تنتشر فيها الكوارث والفتن ويكثر فيها المتساقطون فكرياً أو سلوكياً فكان لزاماً على المهتمين بالدعوة وتربية النشأ أن يعنوا بأنفسهم وبمن معهم من إخوانهم علماً وعملاً وحالاً وأن يكونوا على حذر ويقظة من أهل الزيغ والتضليل والتلبيس الذين يظهرون عادة زمن الفتن فيقع في حبائلهم ضعيف العلم والتربية فتزل به القدم أو يضل به الفهم وأنبه نفسي وإخواني إلى أعظم سلاح نواجه به الفتن والكوارث والنوازل ألا وهو دعاء الله عز وجل والتضرع بين يديه بصدق وإخلاص وسؤاله الهداية إلى الحق والثبات عليه والله عز وجل لا يرد من دعاه ولا يخيب من رجاه بصدق. اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

اللهم اجعل عاقبة ما نزل بالكافرين من الكوارث تدميراً لهم، وللمسلمين خيراً ونصراً.
والحمد لله رب العالمين،،،



عبدالعزيز الجليّل | 29/10/1429





المصدر: موقع المسلم