أسمى معاني الحرية
إن أسمى درجات الحرية ومعانيها ألاَّ يدين الإنسان لمخلوق، وأن يتحرر مِن تحكُّم الأهواء كلِّها، ولو كان هوى نفسِهِ... لا معنى للحرية الكاملة المطلقة إلا أن يكون الإنسان مستغنيًا عن غيره تمامًا... ولا مجال إذن للتخلص من العبودية للبشر إلا بالعبودية لخالق البشر. فالإنسان ليس إذن مخيرًا بأن يكون حرًا أو يكون عبدًا، بل هو مخيَّرٌ بين عبوديتين.
إن أسمى درجات الحرية ومعانيها ألاَّ يدين الإنسان لمخلوق، وأن يتحرر مِن تحكُّم الأهواء كلِّها، ولو كان هوى نفسِهِ؛ فيتحرر منه ولا يتَّخذه إله؛ لأنه في النهاية هوًى أرضيٌّ وهو يحسبُ أنه حرٌّ، ولذلك يُروَى في الحديث: «يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:١٧٠]، بل هو في ذلك كمن سبقه من المرسلين(عليهم الصلاة والسلام): {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}[الصافات: ٣٧]، وأعلن ذلك للعالمين بأمر الله -سبحانه-: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:٨٣]، ولذلك كان جوابه حاسمًا لمَّا سألوه أن يتدخل في التشريع ويُغَيِّر منه أو يبدِّل؛ فيحذف أو يضيف باقتراحات البشر؛ فأرجع الأمرَ إلى صاحبه-سبحانه- وأعلَمهم بأنَّ تبديلَه نزولًا عند رغبتهم، أو اتِّباعًا لأهوائهم هو معصية لله يخاف أن يقترفها، وفي ذلك بيان أنهم إنما يخضعون جميعًا- هم وهو- لله رب العالمين: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[يونس، ١٥]، وهذه أيضًا أعلَنَها لهم بكل وضوح: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:٩]، فكل الأنبياء جاءوا بالهدى والبينات من عند الله- سبحانه-؛ بما فيها من عقائد وشرائع وقوانين، فالخاضع لتلك القوانين خاضع لرب العالمين، متحرر من أي خضوع لغيره، معتوق من كل عبودية لسواه؛ فهل بعد هذا من حرية، وهل رأى العالَمُ أسمى منها؟
»([1])، فيكون الخضوع والتبعية والتذلل والعبودية لله رب العالمين وحده، وليست التبعية حتى للرسول الأكرم(صلى الله عليه وسلم) إلا بوصفه مبلِّغا للوحيين- القرآن والسنة-؛ لأنه يقول: « »، فليس من عنده، وإنما هو الحقّ جاء به من ربِّه-سبحانه- للناس جميعًا، كما في قوله –تعالى-:{لا معنى للحرية الكاملة المطلقة إلا أن يكون الإنسان مستغنيًا عن غيره تمامًا، وإلا فإن حاجته إلى غيره قيدٌ من قيود حريته، وخضوعه له قيدٌ من قيود حريته. ومن مظاهر الحرية التامة ألا يُشَرِّع أحدٌ لأحد، ولا أن يضع له قوانين يسير عليها، وضوابط لا يتعداها، وحدودًا لا يتجاوزها. ومقتضى هذا أن يضع كل بشر قانونًا لنفسه، يحل فيه لنفسه ما يشاء، ويحرم فيه ما يشاء، ويبيح فيه ما يريد، ويمنع فيه ما لا يرغب، وهذا أمر معلوم الفساد، ظاهر الاستحالة في حياة كائن اجتماعي مدني بطبعه. فكان لا بد من الخضوع لقوانين؛ تسندها الديمقراطية وغيرها إلى سلطة الشعوب أو إلى نخبة منه! إذن فمن مجموع سلطة الشعب يكون الشعب خاضعًا للشعب، أو لفئة منه؛ وفي النهاية خضوع بشر لمثلهِ؛ فليس أحدٌ إذن حرًّا تمامًا؛ خاصةً إذا علمنا أن الذي يتولى وضع القوانين والتشريعات المنظِّمة لحياة الناس قلة من الأفراد، يُسمَّون المجالس التشريعية، وهم الذين تخضع لهم الجماهير، ويقفون عند تلك الحدود القانونية، ليست لهم الحرية في تجاوزها، بل يُفرض عليهم تقديسها، ويُقسمون على احترامها، وعدم اخترامها! أما أضحوكة الشعب مصدر السلطات، ومهزلةُ التمثيلِ فخداعٌ وسرابٌ ، لم تتحول إلى حقيقة واقعية بعدُ!
إن المؤمنين بالله- سبحانه- ربًا معبودًا "مُقِرُّون بأن الله هو وحده ذو العلم التام والقدرة الكاملة، والاستغناء المطلق، فهو وحده الفعال لما يريد. أما الإنسان فهو مخلوق، وبما أنه مخلوق فهو مملوك لخالقه، والمملوك عبدٌ؛ فالصفة التي تدل على حقيقة الإنسان هي كونه عبدًا لا حرًا، لكنه عبدٌ لخالقه لا لمخلوقات مثله تتصف هي أيضًا بالعبودية لا بالحرية، وعبوديتُهُ لخالقه تتمثل في كونه- شاء أم أبى- محكومًا في كل تصرفاته بمشيئة خالقه. نعم إن للإنسان مشيئة! ونعم إن له قدرة! لكن خالقه هو الذي شاء أن يجعله شائيًا، وهو الذي شاء أن يجعل له قدرة. فمشيئته ليست مطلقة، بل هي مقيّدة بمشيئة خالقه. فإذا كان الخالق فعالًا لما يريد، فإن الإنسان يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد"([2]) كما قال–تعالى-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[التكوير، ٢٩].
ومهما تغنَّت الأنظمة الأرضية– القديمة والمعاصِرة- بالحرية فإن نظام الإسلام " وحده النظام الذي يحقق حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان؛ حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال؛ ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها. فليس هنالك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع. إنما هنالك رب واحد للناس جميعًا؛ هو الذي يشرع لهم على السواء، وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع، كما يتجهون إليه وحده بالإيمان والعبادة سواء. فلا طاعة في هذا النظام لبشر إلا أن يكون مُنفذًا لشريعة الله، مُوَكَّلًا عن الجماعة للقيام بهذا التنفيذ. حيث لا يملك أن يشرع هو ابتداء؛ لأن التشريع من شأن الألوهية وحدها، وهو مظهر الألوهية في حياة البشر، فلا يجوز أن يزاوله إنسان فيدعي لنفسه مقام الألوهية وهو واحد من العبيد! هذه هي قاعدة النظام الرباني الذي جاء به الإسلام. وعلى هذه القاعدة يقوم نظامٌ أخلاقي نظيف تكفل فيه الحرية لكل إنسان، حتى لمن لا يعتنق عقيدة الإسلام، وتُصان فيه حرمات كل أحد حتى الذين لا يعتنقون الإسلام، وتُحفظ فيه حقوق كل مواطن في الوطن الإسلامي أيًّا كانت عقيدته. ولا يكره فيه أحد على اعتناق عقيدة الإسلام، ولا إكراه فيه على الدين إنما هو البلاغ"([3]).
وعلى هذا فإن الخالق الذي جعل لخلْقِهِ قوانينَ كونية ونواميس قهرية لا اختيار لهم في طاعتها أو معصيتها- وهو الإسلام الإجباري، والعبودية الإجبارية([4])- قد جعل للبشر قوانين شرعية لا تتم سعادتهم الدنيوية ولا الأخروية إلا بها، لكنه جعلها قوانين اختيارية من شاء منهم أن يلتزم بها فَعَلَ، ومن لم يشأ لم يفعل-وهو الإسلام الاختياري والعبودية الاختيارية-؛ فإذا فعل ذلك كان عبدًا لله باختياره كما هو عبد له باضطراره، وكان مأجورًا على حُسن اختياره، سائرًا في طريق الهدى. وإذا لم يفعل كان عبدًا لهوى نفسه أو هوى غيره من البشر، وكان آثمًا على سوء اختياره، سائرًا في طريق الهوى، لذلك فإن" الوسيلة الوحيدة لتحقيق ما يريده دعاة الديمقراطية- أعني التحرر من العبودية للبشر- لا تكون بأن يسن كل فرد لنفسه ما يشاء من قوانين. إنها لا تكون إلا بإخلاص العبودية لله بطاعة ما شرع في كل مجالات الحياة. لا مجال إذن للتخلص من العبودية للبشر إلا بالعبودية لخالق البشر. فالإنسان ليس إذن مخيرًا بأن يكون حرًا أو يكون عبدًا، بل هو مخيَّرٌ بين عبوديتين"([5]).
ــ هوامش ــــــــــــــــــــ
[1]- ابن رجب، جامع العلوم والحكم، الحديث (41)، 2، 393. وقد اختلِف في صحته، فصححه النووي في الأربعين النووية، وابن حجر في فتح الباري، 13، 289، حيث قال: ورجاله ثقات وقد صححه النووي في آخر الأربعين"، وضعَّفه الألباني في مشكاة المصابيح، 1، 59 ، حديث (167).
[2]- انظر: جعفر شيخ إدريس، الإسلام لعصرنا، 2، 21- 22.
[3]- انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، 1، 295.
[4]- ظهر فريق من الممسوخين فطريًّا؛ أرادوا معصية هذه النواميس الكونية ومخالفة هذه القوانين الفطرية، كمن أرادوا تغيير خلق الله-سبحانه-؛ فيحاول أحدهم أن يُحَوِّل نفسه امرأة، وحاول غرس أرحام ليحمل ويضع، واستنبات أثداء ليرضع!! وحاول غيرُهم غيرَ هذا فباءوا جميعًا بالفشل .
[5]- انظر: جعفر شيخ إدريس، الإسـلام لعصرنا ، 2، 22.
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: