غزة جثةٌ نائمةٌ ودعاءٌ يحتاج ليقين
منذ 2008-12-31
بعد المجزرة التي قام بها الاحتلال اليهودي في غزة هذه الأيام، استصغر بعضُهم دعوة الناس للدعاء، وتضرعهم إلى الله عز وجل، وشكَّكَ في نتائج الدعاء وقيمته كسلاح ينتصر به المسلمون.
أقول: قد ذكر الله عز وجل الدعاء مقرونًا بالإجابة، ولم يفصل بينهما بالفاء أو غيرها من حروف الترتيب ولو القريب، وإنما جعل الإجابة مقرونةً بالدعاء، سريعة الوقوع وكأنها تقع لحظة الدعاء مباشرة، كما يشي بذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر: 60].
وفي الآية تأكيدٌ آخر على ضرورة الدعاء، حيثُ جعلته عبادة لله تبارك وتعالى، وتوعَّدَتْ من يستكبرون عن عبادة الله عز وجل بجهنم والعياذ بالله، وهذا وعيدٌ شديدٌ لمن يترك الدعاء ويستكبر عنه، ولا شك أن من يأتي بالدعاء لله عز وجل ويبتهل إليه أن يجيبه سيحرص في الوقت نفسه على الإتيان بشروط الدعاء، والقيام بضروراته ودواعيه، من الطاعة والعبادة لله عز وجل، فهي حلقةٌ متكاملةٌ، يأتي بعضها ببعضٍ، ويدلُّ بعضها على بعضٍ.
مشلكة الشعوب العربية والإسلامية مع إسرائيل خاصة؛ أنَّ تلك الشعوب العربية والإسلامية قد وقعتْ تحت سيطرة الآلة الإعلامية الضخمة، التي صورتْ إسرائيل دولةً لا تُقهر، وشعبًا نموذجيًّا متطورًا، فتخيَّلت الشعوب في لحظة ضعفٍ أنَّ العصابات اليهودية المُلَفَّقَة من شتاتٍ مبغوض في منابعه يمكنها أنْ تُبدع أو تبتكر، تمامًا كما تصورتْ الأمر نفسه بالنسبة للشتات الأمريكي المُلَفَّق من هنا وهناك، وفات الشعوب الواقعة تحت سيطرة الآلة الإعلامية أنها ـ أعني الشعوب العربية والإسلامية ـ هي التي أَمَدَّتْ هذه العصابات بشريان حياتها، عِلْمًا وعَمَلًا، حتى إذا استوى على سوقه، واكتمل له البناء تنكَّر لهذه الشعوب، وكافأها باحتلال أراضيها وسرقة ثرواتها، ولم يكتفِ بهذا حتى لا يفتضح أمره مع الأيام، بل حمى نفسه بسياجٍ من التضليل الإعلامي الفاجر، وأقام آلةً إعلامية ضخمة لإقناع هذه الشعوب بضعفها وهوانها بجوار قوته التي لا تُقهر، فانقلبتْ بذلك الأمور.
لكن المشكلة الكبرى كانت في تلك العقدة التي ترسَّخَتْ داخل أذهان الشعوب العربية والإسلامية إلا من رحم الله، حيثُ صدَّقَتْ لوهلةٍ أنها بالفعل عاجزة غير قادرة على فِعْل شيءٍ أمام الدولة الإسرائيلية، وسرى هذا في نحو ثلاثمائة مليون عربي يحيطون بنحو ثلاثة ملايين يهودي في إسرائيل.
واستفحلتْ هذه العقدة حتى صار البعض يتصرَّف بناءً عليها، ويتحرَّك من خلالها، وإنْ لم يعلن عن ذلك صراحةً.
ومن هنا رأينا العديد من الناس يطالب غيره بالدعاء لأهل غزة الآن، أو بالدعاء للمسلمين في مناسبات عديدة عندما يتعرضون للبذاءة والبطش اليهودي، وتتردَّد عبارات على نحو: "فنحن لا نملك سوى الدعاء"، أو "ماذا سيفعل الدعاء؟"، وبعضهم قال: "دعونا فلم يُستجب لنا فحتى متى ما نحن فيه؟"، إلى آخر هذه العبارات التي جاءت في سياق من اليأس، مما يدل على أمرين: الأول: الإحباط والشعور بالعجز أمام الدولة اليهودية رغم صغرها، والثاني: استصغار قيمة الدعاء، واعتباره سلاح العاجزين، أو سلاحًا عاجزًا لا يُؤْبه له، ولا يُكْتَرَث به.
ولا شك أن الأمر الثاني مترتِّبٌ على الأول، وكلاهما مترتبٌ على المقدمة السابقة؛ أعني عقدة الشعور بالعجز والهوان التي زرعتها الآلة الإعلامية اليهودية مباشرة أو عبر عملائها في العالم.
ولا شك في خطأ كل هذه الأمور مجتمعة ومنفردة، وخطورة ذلك على العقيدة والهوية الإسلامية والعربية، ولابد للشعوب العربية والإسلامية أن تقوم من نومها الذي طال، وتستفيق من غفلتها، فإنها تحارب عصابات ضعيفة يقتلها جُبنها، فتُدمِّر وتحرق بطائراتها كل ما تقدر عليه، لكنها وهي تُدمِّر ترتعد فرائصها هلعًا إِنْ لوَّح لها نائمٌ بيده أثناء قصفها له بطائراتها من بعيد، فهي ترتعد حتى من النيام، ولم تستطع و لن تقدر على إسكات شعبٍ أعزل يحارب بالحجارة والطوب من سنين، بينما تحاصره هي أحيانًا، وتقصفه بطائراتها أحيانًا أخرى، فتقتله بعدما حاصرته وجرَّدَته مِن كل مقوِّمات الحياة والعيش، فترى في الصورة كأنَّ طائرةً عملاقة تحارب شبحًا مجرَّدًا من كل وسائل الدفاع عن نفسه، غير أَنَّ الطائرة لجبنها تتمايل حتى لتكاد تسقط، والشبح الأعزل بَعْدُ واقفًا كالمارد العملاق، لا ينحني ظهره وإِنْ مُنِع عنه الطعام والدواء، ولا ينكسر وإِنْ تعلَّقَتْ برقبته جبال الغدر تحاول شدّه لينكسر، لكن عبثًا تحاول، فهو الطود الشامخ بإيمانه مهما اجتمعتْ عليه الخطوب.
ومثل هذا الواثق بربِّه، المستقوي بإيمانه مَنْ ينتصر، وتستجاب دعوته، إذا ما توجَّه لربِّه بالدعاء؛ لأن الله عز وجل قد وعدَ بالاستجابة، ولا يُخلِف الله وعْدَه، لكن علينا أن نوقن ونثق بالله عز وجل وبقدرته على إجابة الدعاء في أي شأنٍ كان، حتى ولو كان في الشأن الإسرائيلي ومقاومة المحتل اليهودي الغاصب؛ لأن الله عز وجل قادرٌ على كل شيءٍ، وهو أكبر من كل شيءٍ، لا يُعجزه شيءٌ، فهو مالك كل شيءٍ، إذا أراد شيئًا إنما يقول له: كُنْ فيكون، والواجب علينا أن نثق بهذا ونؤمن به حقيقة؛ لأنه من لوازم إيماننا نحن كمسلمين.
ومن توجَّه إلى الله بالدعاء وهو يثق به ويتيقَّن من قدرته في إجابة دعوته، ليس كمن توجَّه إليه بالدعاء مع الشكِّ في الاستجابة له؛ فإِنَّ مَن استقوى بالله عز وجل وركن إليه قوَّاه الله تبارك وتعالى، ومَن ظنَّ في الله عز وجل غير ذلك فلا يلومنَّ إلَّا نفسه، والله عند ظنّ عبده به، كما في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقولُ اللهُ تعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» [رواه مسلم].
وبهذا اللفظ الواضح والصريح يحسم الحديث المسألة، فلينظر كلّ داعٍ وكل إنسانٍ في نفسه، فإنَّ الله عز وجل عند ظن عبده به، فمَن ظنَّ خيرًا وجده، ومَن ظنَّ غير ذلك فهو وما ظنَّه، والله عز وجل لا يظلم أحدًا ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون.
أَمَا وقد توجَّهَنا لله عز وجل بالدعاء، فلنُرِهِ مِن أنفسنا حُسن ظننا وثقتنا به سبحانه وتعالى، ونركن إليه، فهو وحده القادر والمعين، والناصر لكل مظلومٍ، فإِنَّ دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله عز وجل حجاب، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» [رواه مسلم].
فمجرَّد التردُّد في الدعاء، أو الشك في الاستجابة من عدمها، تتنافى مع الإيمان والثقة بالله عز وجل، ولذا حذَّر الشرع من التردُّد في الدعاء مهما كانت صورته، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلَا يَقُولَنَّ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»، وفي روايةٍ من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُكْرِهُ لَهُ»، وفي شرح هذا الحديث قال العلماء: "عزم المسألة: الشدة في طلبها والجزم من غير ضعف في الطلب ولا تعليق على مشيئة ونحوها ومعنى الحديث استحباب الجزم في الطلب وكراهة التعليق على المشيئة".
فلابد من الإتيان بالدعاء مجزومًا محسومًا لأن الله عز وجل لا يُكْرِهه أحدٌ على شيءٍ، ولا يمنعه أحدٌ من شيءٍ، فهو سبحانه وتعالى القادر على كل شيءٍ، فعَّالٌ لما يُريد، قويٌّ عزيزٌ حكيم، تبارك وتعالى.
فعلى المسلم أن يحرص على الدعاء الجازم وأن يتيقَّن من وفاء الله عز وجل بوعده واستجابته لمن دعاه، وأتى بشروط استجابة الدعاء، المعروفة المشهورة في الشرع، والتي على رأسها الإيمان بالله والطاعة والدعوة بالخير.
ويظهر هذا من مطالعة سيرة أئمة الإسلام على مدار التاريخ، حيثُ جمعوا بين العبادة والطاعة والدعاء، فأجاب الله دعواتهم، وجعلها سمةً لهم، ومن ذلك قول ابن حبان عن طاوس بن كيسان، إمام التابعين رحمهم الله جميعًا: "كان مِن عباد أهل اليمن، ومن سادات التَّابِعِين، وكان قد حجَّ أربعين حجة، وكان مُستجاب الدعوة".
فهؤلاء العلماء العُباد لا يقل دورهم في المعركة عن أولئك الجنود في المعركة الإسلامية الكبرى، التي يخوضها المسلمون ضد أعدائهم في أي وقتٍ وحينٍ، فالدعاء سلاحُ المعركة النافذ والعاجل، وبه تُفرج الكُربات، وتنحل العُقد.
ويقول ابن القيم رحمه الله في بدايات كتابه (الداء والدواء): "والدعاء مِن أنفع الأدويةِ، وهو عدو البلاء، يُدافعه ويُعالجه، ويَمنع نزولَه، ويَرفعَه أو يُخَفِّفه إذا نـزل، وهو سلاحُ المؤمن".
وقد ذكر ابنُ أبي حاتم في تَقْدِمَة الْمَعْرِفَة لكتابِ (الْجَرْح وَالتَّعْدِيل (ص/341)) عن الحسن بن أحمد بن الليث قال: سمعتُ أحمدَ بن حنبل وسأله رجلٌ فقال: بالرَّيِّ شابٌّ يقال له أبو زُرْعَةَ، فغضب أحمد وقال: تقول شابّ؟ كالمُنْكِر عليه، ثم رفع يديه وجَعَلَ يدعو الله عز وجل لأبي زُرْعَةَ ويقول: اللهم انصره على مَن بغى عليه اللهم عافه اللهم ادفع عنه البلاء اللهم اللهم، في دعاءٍ كثير، قال الحسنُ: فلما قَدِمْتُ حكيتُ ذلك لأبي زُرْعَةَ وحملتُ إليه دعاءَ أحمدَ بن حنبل له وكنتُ كتبتُه عنه فكتبه أبو زُرْعَةَ، وقال لي أبو زُرْعَةَ: ما وقعتُ في بليةٍ فذكرتُ دعاءَ أحمدَ إِلَّا ظننتُ أَنَّ اللهَ عز وجل يُفَرِّج بدعائه عني". فالله عز وجل قد جعل في الدعاء فرَجًا ومخرجًا، وخاصة للمظلوم.
وفي المنسوب للإمام الشافعي من الشِّعْر:
أَتَهْزَأُ بالدعاءِ وتَزْدَرِيْهِ ومَا تَدْرِي بِمَا صَنَعَ الدعاءُ
سِهامُ الليلِ لا تُخْطِئ ولكِنْ لَهَا أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انْقِضَاءُ
فيُمْسِكُها إِذا ما شـاءَ رَبِّي ويُرْسِلُها إِذا نَفَـذَ القَضَـاءُ
ومما قاله آخر:
وإِنِّي لأَدْعُو اللهَ حتى كأَنَّنِي أَرَى بجميلِ الظنِّ ما الله صَانِع
وهنا تكمن المسألة التي ينبغي أن ينتبه لها المسلم أثناء دعائه، وهي ضرورة إحسان الظن بالله عز وجل، فالله عز وجل كما سبق عند ظنّ عبده به.
وقد حكى لنا بعضُ الأفاضل ممن نعرفهم بالصدق والخير من كبار الناس، أن عائلة ابتلى الله ابنتهم بالعمى في حادثٍ مفاجئ، فقرعت العائلة باب القادر وحده، فأجابهم مِن فورِهم وأعاد إلى ابنتهم بصرها، وهي اليوم أستاذة جامعية مرموقة، فقد أخذها أهلُها بعد عماها مباشرة وذهبوا بها إلى أداء العمرة، وهناك تضرعوا إلى ربهم، وابتهلوا إليه، فعادت معهم مبصرةً، وكأنَّ شيئًا لم يكن.
وقد سمعنا ورأينا من عجائب الدعاء والابتهال إلى الله عز وجل ما تعجز عن وصفه الكلمات، والوقائع مشهورةٌ لا حصر لها، استجاب الله عز وجل فيها دعوات الصادقين المخلصين، ولم نقصد في مقالنا هذه الكلام عن فضل الدعاء وأصوله وفروعه، وإنما قصدنا التنبيه على ضرورة الثقة بالله عز وجل أثناء الدعاء، واليقين فيه سبحانه وتعالى، والثقة بوعده تبارك وتعالى بالاستجابة للداعين.
فليست المشكلة في الإجابة، وإنما هي في الثقة بالله عز وجل، واليقين وحسن الظن بإجابته تبارك وتعالى لدعوات عباده المخلصين، فهلمَّ عباد الله إلى إحسان الظن بالله القادر على كل شيءٍ، وهلمَّ عباد الله إلى الثقة بالله، وهلمّ عباد الله إلى سهم المعارك وسلاحها الذي لا يُرَدّ، هلمُّوا إلى الدعاء.
هلمّ عباد الله، تطهروا من ذنوبكم ومعاصيكم، وعودوا إلى ربكم، وانصروه ينصركم، والجزاء من جنس العمل.
صلاح بن فتحي هَلَل
3/1/1430
salah_fathe@hotmail.com
المصدر: لواء الشريعة
- التصنيف: