غزة تستاهل..!
منذ 2009-01-07
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد قالها لي بكل هدوء، فنظرت إليه على مضض مستغرباً، ماذا تقول؟!
أجاب: كم نصحهم من حولهم بألا يستفزوا اليهود فلم يقبلوا، وهذه نتيجة العناد.
قلت له: ولنفترض أن هذا صحيح، فما ذنب الأطفال والنساء وعامة من لا يملك قرارا، أما من ضمير أو انتماء أن يقتلوا وتهدم البيوت فوق رؤوسهم ونحن نراهم ونعجز عن نصرتهم، ثم نجد من يجرؤ على قول "يستاهلوا" عليهم؟
سكت، ثم قال: وهذا القتل وما يتبعه كان متوقعا!
فقلت: وهل توقـُعـُنـَا للشر دليل على قدرتنا على منعه؟
يا سيدي، إن توقعات الصراع تستدعي أن يحدث هذا... إن عاجلا أو آجلا... أبدت حماس مقاومة أم لا، ومن يده في الماء ليس كمن يده في النار.
لقد حوصروا وجوعوا أشهرا عديدة تناسى القريب والبعيد مأساتهم... أغلقت عليهم غزة كسوار على معصم... مرض منهم من مرض فلم يجد علاجا، ونفدت المؤن، فلم نمد لهم أيدينا إلا بفتات، حتى لو أرادوا أن يشتروا بأموالهم لا يجدوا من يبيع لهم! بل نجد مَلَكِيِّين أكثر من الملك يدَّعون أن إسرائيل لها ولاية عليهم، بينما هم يدركون أن اليهود هم أول من فرح بالتخلص من غزة ذات الكثافة السكانية التي تسومهم الذل مع استمرار الاحتلال.
ما هذه القسوة؟ وما هذا الانتماء لليهود على حساب المسلمين من قِبَل بعض المتنفذين؟
ثم أتبع اليهود ذلك -وبكل صلف- فاستهدفوا كل من استطاعوا استهدافه من أهلها، وكأنهم يتنزهون؛ فقد أمنوا اللوم، بل وكأنهم وجدوا المبررات كافية حتى أطلقوا تهديداتهم من داخل بلادنا... تخرج الطائرة فتضرب هنا وتهدم هناك من غير سبب حتى في وقت التهدئة، فماذا تنتظر من المستضعفين بعد ذلك؟
وأنت تعرف بأن الله -تعالى- قال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ . وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(الشورى:39-42).
وقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي أصابهم بغي المشركين.
قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة، فأذن الله لهم بالخروج، ومكن لهم في الأرض، ونصرهم على من بغى عليهم؛ وذلك قوله في سورة الحج: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)(الحج:39-40).
وقيل: هو عام في بغي كل باغٍ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه.
هكذا بالنص قال العلماء كالقرطبي وغيره.
فقال: لكن تلك الصواريخ تستفزهم أكثر فيضربون بكل ما أوتوا من حقد!!
قلت: ماذا تتوقع ممن يُقـْتـَل فلا يجد ما يدفع به عن نفسه؟ ألم تسمع لقول الشاعر:
وإن لم يكن من الموت بُـــــدٌّ فمن العار أن تموت جبانا؟
ثم إن الإشكالية ليست في كونهم يقاتلون اليهود، الإشكالية في أن من حولهم من المسلمين يسلمونهم لقمة سائغة لأعدائهم.
تخيل معي أن اليهود لو كانوا يتوقعون أن يعلن قادة المسلمين أو أحدهم الجهاد ضدهم أو يسحبون الاعتراف بهم أو يمنعون عنهم ما يمدونهم به من المؤن والعتاد، وما خفي من العون أعظم! هل كانوا سيجرؤون على هذا؟
فالأمر ليس بسبب الفلسطينيين، بل بسبب أننا أسلمناهم.
تأمل معي ما ورد في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: قَوْله: (لا يَظْلِمُهُ) هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الأَمْرِ؛ فَإِنَّ ظُلْم الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ حَرَام, وَقَوْله: (وَلا يُسْلِمُهُ) أَيْ لا يَتْرُكُهُ مَعَ مَنْ يُؤْذِيه وَلا فِيمَا يُؤْذِيه, بَلْ يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ.
فأين نحن من هذه الأوامر الشرعية؟؟
وانظر أيضا ما كان من مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأشعريين -قوم أبي موسى الأشعري- أنهم كانوا ينتمون لإخوانهم، يكفل الضعيف القوي، ويطعم الغني الفقير، فمدحهم ونسبهم إليه، عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ) رواه مسلم، ومعنى (أَرْمَلُوا) فني طعامهم.
وفي هذا الحديث فضيلة الأشعريين, وفضيلة الإيثار والمواساة, وفضيلة خلط الأزواد في السفر, وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر, ثم يقسم. هكذا قال النووي في شرحه... فهل فعلنا نحن ذلك معهم؟
قال: فما ترى من واجبنا تجاههم؟
قلت: النصرة كلٌ بقدر طاقته، وبحسب ما يقدر، فمن استطاع أن يدفع عنهم بقوته أو بوجاهته وقدراته السياسية والدبلوماسية فهذا واجب عليه، ومن استطاع أن يطعمهم فيجب عليه، ومن قدر على مداواتهم فهو واجب عليه أيضا، ولقد قام بعض المسلمين لاسيما من خلال الجمعيات بشيء من هذا الواجب، وقامت أيضا بعض الدول ببعض الجهود، لكن لا يزال الجرح ينزف!!
تأمل معي كيف لام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأشعريين على كونهم لا يعلمون جيرانهم فكيف لو درى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن بعض المسلمين يتركون جيرانهم يقتلون وهم لا يحركون ساكنا؟!
وأخرج ابن راهويه والبخاري في الوحدانيات وغيرهما عن ابن أبزى عن أبيه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا، ثم قال: ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم ولا يفطنونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون، والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانه أو ليتفقهن أو ليفطنن، أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل فدخل بيته. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعني بهذا الكلام؟! قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين، فقهاء علماء، ولهم جيران من أهل المياه جفاة جهلة، فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر، فما بالنا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لتعلمن جيرانكم ولتفقهنهم ولتأمرنهم ولتنهونهم، أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله، فأما إذن فأمهلنا سنة، ففي سنة ما نعلمه ويتعلمون، فأمهلهم سنة...)
قلت: فانظر كيف مسؤولية المسلم عن إخوانه!
قال فماذا تتوقع بعد ذلك؟
قلت: لن يحدث شيء كثير سيعود اليهود يجرون أذيال الخيبة، فلن ينصروا أبدا أو يحققوا أهدافهم بقصف جوي، وسينقلب السحر عليهم -بمشيئة الله-، ولو تجرءوا واقتحموا غزة فستكون خسائرهم فادحة، جربوا مثلها في غزة آنفا، لكن كنت أتمنى أن تكون مواقف المسلمين أكثر أخوة من هذا وأعمق أثرا، وأكثر عصمة لإخوانهم والله المستعان، فغزة تستاهل.. نعم تستاهل النصرة والعون، والأخوة والبذل، وترك التعلق بالدنيا.
د/ ياسر عبد التواب
المصدر: صوت السلف
- التصنيف: