فوارق - يتعاملون مع أخطاء الناس بنفسية المحقق
و فارق بين من يتعامل مع المدعو بنفسية الطبيب الشفوق الحريص على البحث عن حل والمصر على استجلاب الشفاء والبُرْء من كل داء، وبين أولئك الذين يتعاملون مع أخطاء الناس وزلاتهم بنفسية المحقق أو الشرطي الذي يسعى لضبط المتهم متلبسا بجريمته ويحرص على جمع التحريات التي تثبت تهمته..
ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم نموذجا ساطعا لتلك النفسية الحريصة على خير المدعوين وبُرئهم من الأخطاء والزلات والمعاصي والأهواء
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
عطس يوما رجل من المسلمين أثناء صلاة الجماعة فقال معاوية بن الحكم السلمي: يرحمك الله
رماه القوم بأبصارهم وبدا أن أمراً جللا قد حدث
الرجل يتكلم أثناء الصلاة!
ويحه ماذا يفعل؟!
أولم يفقه؟
أولم يعلم؟
- واثُكلَ أُمِّياه!
ما شأنُكم تَنظُرونَ إليَّ؟!
هكذا أكمل كلامه أثناء الصلاة
فجعل القوم يضربون على أرجلهم أي اسكت وازدادت الهمهمات الزاجرة تنهاه ضمنا عما يفعله في الصلاة
سكت معاوية وقد فهم أنه قد تجاوز من حيث لا يعلم ثم انتهت الصلاة فالتفت النبي سائلا من المتكلم في الصلاة
فلما أعلن معاوية عن نفسه وتقدم بين يديه ما قهره ولا سبه ولا زجره
الرجل كان مسافرا لفترة طويلة ولم يعلم الحكم ولم يتعلم الوصف
فقط علّمه...
بيّن له موطن خطئه وكان حبيبنا بشهادة المخطيء , أحنى ناصح وأرأف معلم
وحين كادوا أن يفتكوا بالأعرابي الذي تبول في ناحية المسجد زجرهم عن ذلك مشفقا أن يقطعوا على رجل بولته
أويعقل أن يكون ما يشغله هو انقطاع بولة الرجل بشكل مفاجىء يؤذيه؟
الجواب نعم...
مع رسول الله الرؤوف الرحيم الشفوق الرفيق يُعقل ذلك
ومادام الحل بسيطا وإصلاح الخطا متاحا فلم الغلظة والشدة مع رجل جاهل لا يعلم؟!
- أهريقوا على بوله ذنوبا من ماء
كذلك كان الحل ببساطة وليعلم الرجل الحكم بعد ذلك وليدرك قيمة المساجد وحرمتها ووجوب طهارتها..
لكن برفق وبرغبة صادقة في التغيير للأفضل
...
-ائذن لي في الزنا !!
يا لها من كلمة
كيف جرؤ ذلك الشاب أن يقدم على قولها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
أى شهوة مستعرة تلك التي تلظى لهيبها في قلبه اليافع وأدت به إلى ذلك المسلك العجيب ودفعته لذلك الجهر الرهيب؟
تصاعدت أصوات الهمهمات الغاضبة زاجرة الفتى عما يخوض فيه بين يدي النبي دون استحياء
لكن صوتا حانيا قطع كل تلك الهمهمات الزاجرة داعيا الفتى المستأذن بالزنا لآخر ما يتصوره جافٍ أو قاسي القلب
لقد تكلم رسول الله
ولقد قال كلمة تقاطر منها آخر خلق قد يتصوره القساة مع مثل هذا المطلب الذي قدم به الشاب!
-ادنه
أى اقترب
هكذا عامله رسول رب العالمين
دعاه ليقترب منه! ناداه لينهل من حسن منطقه وعذوبة حديثه وحكمة دعوته..
- أَتُحبُّه لِأُمِّكَ؟
- لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك
قال الرسول: ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم
أفتُحبُّه لابنتِك
-لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعلني اللهُ فداءَك
-لأختك؟ لعمتك؟ لخالتك؟
منطق هاديء سديد وحكمة دعوية رائقة وحسن معشر ولين جانب و خفض جناح
هكذا كان سيدنا رسول الله!
وها هو يكلل حسن دعوته بلمسة حانية ومودة عملية صافية
ها هو يمد يده ليمسح بها على صدر الفتى المستعر بالشهوة ويتبع مخاطبته الأولى لعقله؛ بتربيت رحيم على محل عاطفته ومكمن مشاعره ليتكامل خطاب المنطق مع ملامسة الفطرة وليخرج الشاب وقد زالت وساوس الشيطان من صدره وهدأ قلبه وارتاحت نفسه
كم من زلات ومواطن ضعف قد سارعنا بجلد صاحبها بسياط توبيخنا الفاضح ولنهوي بها على ظهر روحه ونُصْلي نفسه بمرير ألفاظنا المعلنة دون أن نفكر قبل أن نجلده أننا بذلك قد نعين شيطانه عليه ونزيد في نفوره وإبعاده منا ومن قبول نصحنا ونفتح له أبواب العزة بالإثم على مصراعيها بدلا من حرصنا على إغلاقها بمتاريس الهداية وأقفال التوبة
ولو أننا صدقنا في حرصنا على نفع المخطيء ورغبتنا في خيره وإصلاحه لانتقينا مما نحب لأنفسنا ولتسربل نصحنا بثياب الستر والشفقة ولتمثلنا وأدركنا الفارق بين حال الطبيب العطوف الرحيم وبين نفسية المحقق الصارم الذي يبحث عن متهم ليدينه
فقط لو صدقنا ..
- التصنيف: