يحكون في بلادنا ...!

منذ 2009-04-20

قصة قصيرة ـ من واقع الأسرى الفلسطينيين ..

 

صرخ ممثل غرفة رقم 2 في قسمنا في سجن بئر السبع في السجان حسكل :
- حسكل ، بوينا مهِرْ قالها بالعبرية ( تعال ، أسرع )
- ما أتا روتسيه ، ما كرى ؟ رد عليهم (ماذا تريدون ما الذي حصل)
- عندنا مريض في حالة سيئة على وشك الموت ، اطلب الممرض لنقله للمستشفى بسرعة .

وعد السجان الروسي الأصل بالاتصال بالإدارة فذهب لغرفته وبعد فترة عاد قائلا إن الإدارة سترسل من ينقله من القسم .

كان قسم الأسرى الفلسطينيين في سجن بئر السبع الإسرائيلي في تلك الفترة 1983 يتكون من ثلاثة أقسام وكان القسم الذي نحن فيه يختلف عن كل الأقسام لأنه قسم قديم يتكون من أربعة غرف كبيرة جدا أشبه بغرف المحاضرات تحتوي كل منها ستة وثلاثين سريرا زوجيا وتتسع لاثنين وسبعين أسيرا قسم منهم مضى على وجوده في الأسر أكثر من عشر سنوات مثل إبراهيم شيخة وأبو الغاز وخالد الزبدة وعلي جدة وغيرهم .

وكان كل قسم له أسير يمثل المعتقلين في الاتصال بالإدارة ولا يسمح لأحد التحدث مع السجان سواه ، كما يوجد لكل غرفة ممثل رسمي في الحالات الطارئة في الليل مثلا لو أصيب أسير بمرض احتاج لعلاج وفوق كل ذلك يوجد ممثلان رسميا للأسرى في السجن كله هما من يمثلان المعتقلين في السجن أمام إدارة السجن ، لعرض مطالب المعتقلين الحياتية .

وقع علينا خبر مرض إسحاق مراغة وقع الصاعقة فقد كان مناضلا محبوبا من المعتقلين ، تنقل في سجون كثيرة منها الرملة وسجن النفحة الصحراوي الذي كان أحد من شاركوا فيه وكان في إحدى لجانه القيادية بعد نقل محمد حسان ويعقوب دواني .

"أبو جمال" كان يعاني من أمراض كثيرة خلفتها الإضرابات الطويلة عن الطعام وخصوصا إضراب سجن نفحة الصحراوي ومحاولة إدارة السجون بقيادة وزير الداخلية آنذاك يوسف بورغ فك الإضراب بالقوة وقمع المعتقلين حينها أصيب أبو جمال بعد أن حاولوا كسر إضرابه وسكب الحليب في فمه بالبربيج المطاطي وسحبه منه لينزل الحليب في رئتيه وفورا أدخل غرفة العناية المركزة في السجن حيث كاد أن يفارق الحياة لولا أن طبيب السجن الجنرال الصهيوني أقسم له أنه لن يتركه يموت ، ليس لأنه يريد إنقاذ حياته ، ولكن حسب ما قال له بالحرف الواحد : لن أتركهم يجعلوا منك بطلا قوميا .

لم يمت إسحاق مراغة في إضراب نفحة الشهير عام 1980 لكن استشهد بدلا منه علي الجعفري وراسم حلاوة رحمهما الله .

كنت حينها خارج القضبان أسير مع المتظاهرين في شوارع القدس تضامنا مع أسرانا المضربين في سجن نفحة ، وبدل أن نغني أغنيتنا الشعبية المعروفة :

من سجن عكا وطلعت جنازة
محمد جمجوم وفؤاد حجازي

صرنا نردد :
من سجن نفحة وطلعت جنازة
على الجعفري وراسم حلاوة

لم يختلف شيء سوى السجن والسجان وأسماء الشهداء لكن الوطن واحد والشعب المكلوم واحد . فشهداء اليوم هم أحفاد جمجوم وحجازي والزير . ومن يدري من سيستشهد غدا ؟

لم أكن أعرف أن إسحاق مراغة سيمرض بعد عدة سنوات وأنا معه في نفس الأسر ، لكن في غرفة أخرى ، لم نستسلم لإدارة السجن تحركنا جميعا وهددنا السجان أننا سنبدأ باتخاذ خطوات تصعيدية إذا لم ينقل أبو جمال مراغة فورا للمستشفى ، وكانت إدارة السجن تعرف أن تهديدات الأسرى تنفذ فتحركت بدقائق ونقلته من القسم .

كان إسحاق في وضع صعب جدا ودع سكان غرفته وشد على يديهم كأنه يودعهم الوداع الأخير .

نقلوه وحده مع أن المريض أحوج ما يكون لمن يقف معه في تلك الظروف الصعبة ، فكيف عندما يكون بين يدي أعدائه وتحت رحمة ممرضين جنود وضباط ومخابرات يهمهم قتلك وعلى الأقل قتل روحك المعنوية وكسر صلابتك وإيمانك بالثورة والوطن والشعب ، عندما يحاولون زرع الأكاذيب في نفوس المرضى وتحريضهم على شعبهم وأهلهم .

نقلته إدارة السجن من القسم لتمتص غضب الأسرى لكنها تركته في عيادة السجن ولم تنقله فورا لمستشفى سوروكا في بئر السبع القريب من المستشفى والذي عادة ما يرسل المرضى في الحالات الطارئة في السجن إليه .


لم تكترث إدارة السجن لوضعه الصحي ولم تتابع الموضوع ، وكانت تريد بذلك إذلال واحد من الأسرى الأشداء الذين كان موقفهم صلبا في إضراب سجن نفحة الصحراوي الذي كشف للعالم وجه إسرائيل البشع ، وقرارات الوزير الصهيوني يوسف بورغ من حزب المفدال الديني الذي أشرف بنفسه على ضرب الأسرى بالهراوات والغاز لكسر إضرابهم الشهير .
فقد نقلوا قسما من الأسرى في سجن نفحة الصحراوي بعد الإعلان عن الإضراب بحوالي الأسبوعين إلى سجن الرملة الجديد وكان في استقبالهم هناك الدكتور يوسف بورغ وزير الداخلية الإسرائيلي وقوة صخمة من السجانين معظمهم من أصل روسي وهناك كانوا يعرضون على كل أسير على حدة أن يفك إضرابه وعندما يرفض كانوا يضربونه بالهراوات على كل أنحاء جسمه ثم يسقونه الحليب الخاص بالمضربين بالقوة ، ليس هذا فحسب بل كان السجانون بأمر من الوزير نفسه الذي كان يتفرج يدخلون البربيج المخصص لشرب الحليب في مؤخرته ثم يدخلوه بعد ذلك في فمه حتى يصل المعدة ثم يضغطون عليه لجرح معدته بعد ذلك يصبون الحليب .


كان أبو جمال في غرفة العيادة التي تركوه فيها وهو بين الحياة والموت يدرك تمام الإدراك ما يهدفون إليه وكان يصرخ بهم بقدر ما يستطيع أن ينقلوه للمستشفى لأنه غير قادر على الحركة ، أو التنفس ، كانو يضحكون عليه قائلين : نحن ننتظر سيارة الإسعاف .

جلس وحيدا في العيادة ، لا أحد معه ، الوحدة قاتلة في الأسر ، فكيف لو كانت الوحدة مع المرض وبين أيدي سفاحين قتلة ، يتمنون موتك كل لحظة ؟؟

كان أبو جمال نائما على السرير غير قادر على الحركة ، لم يعد يقدر أن يصرخ أو ينادي ، هده المرض ، يتطلع لسقف الغرفة يعد ما بها من لامبات ومن كراسي يعود بذكرياته لأيام سجن نفحة وسجن الرملة ... تذكر يعقوب دواني وعمر القاسم وعوني الوعري ومحمود العبيدي ، سليم ، عطا ، محمد ...

عشر سنوات مر على أسرنا ، فهل سنقضي بقية الحكم أم سنفاجأ بالثورة تحررنا من الأسر ؟؟
كان يعلم أبو جمال أن هناك مفاوضات تبادل أسرى وكان يعرف أن اسمه سيكون واحدا منهم !! من يومها وهو يحلم بالحرية ، يتذكر أم جمال مراغة ...

- عشر سنوات لا زالت تنتظر ، لا بل لم تترك زيارة إلا وتزورني فيها ، قاست من أجلي الكثير ، ضحت لي وللوطن ، تحملت كل أعباء الأولاد ، كانت لهم الأب والأم .
- عندما كانت تزورني كانت تشعرني بالحنان والدفء ، كانت تشحن بي الأمل والعزيمة .
- تحملت الكثير ، فقد آن الأوان أن أرى البسمة على شفتيها
- يا ألله كم أشتاق أن أضمها لصدري ، عشر سنوات لم أرها إلا من وراء القضبان من وراء الحديد لم أستطع أن ألمس سوى أصبعها .
- ياه يا أم جمال يا حبيبتي ، يا أروع نساء العالم ، كم أنا بحاجة إليك الان ، بحاجة أن تكوني بجانبي ، معي فأنا من عينيك وعيون أولادنا أستمد شجاعتي ، كيف حال الأولاد ؟؟
- المرض يزداد ، آه يا رب رحماك ، فهل حانت ساعة الوداع ، أصحيح أنني لن أر جمالا بعد اليوم ؟؟
- يارب إن كانت قد حانت ساعة منيتي ، فاسمح لي على الاقل بزيارة واحدة أودع فيها أم جمال والأولاد ، وإن مت قبل ذلك فأنا أستودعك إياهم .

كنا في القسم وفي السجن نغلي فقد وصل الخبر كل الأقسام كنا نسأل كل ساعة عن "أبو جمال" والإدارة تقول إنه في المستشفى . لم نصدق فبدأنا بأول إجراء نضالي حيث أعدنا وجبة الغذاء .

مساء اليوم تقريبا جاءنا للقسم أبو مهادي ممثل القسم من الأسرى حيث بلغ مسؤولي الغرف أن الإدارة أعلنت استشهاد الأسير إسحاق مراغة .

- مات أبو جمال مراغة ابن القدس الوفي .
- مات شهيد نفحة مع وقف التنفيذ ( هكذا كنا نسميه لأنه كان على وشك أن يموت )
- مات البطل
- مات الرفيق ، الأخ ، الصديق ، الأب ، الزوج
- مات فبكى الأسرى في كل السجن


بكيت معهم ، لم أتخيل أن الأسير الذي قدمت لزوجته عام 1978 هدية رمزية في نادي الموظفين في القدس تقديرا لجهودها وتعبيرا منا عن تضامننا مع أهالي الأسرى ، سوف ألتقيه بعد سنوات في السجن وسوف أبكي هناك على استشهاده !!
يا لهذا القدر !
بدلا من اللقاء في ربوع القدس التقينا في ربوع سجن بئر السبع !


كان الله بعونك يا أم جمال
كان الله بعونك يا جمال

حزن الجميع توقفنا عن ممارسة الرياضة أغلقنا الراديو فقد كنا حينها لا نتملك أجهزة راديو ولا تلفزيون كما هو الحال هذه الأيام وكل ما نسمعه هو إذاعة صوت إسرائيل الذي تبثه الإدارة علينا باللغة العربية عدة ساعات باليوم ولم يذع سوى السموم وصوت أم كلثوم الساعة السادسة والنصف كل مساء ، لكن هذه المرة أغلقناه وخيم الصمت على كل الغرف .

بدأت الاجتماعات بين مسؤولي الغرف قبل أن يخيم الليل وتم التنسيق على إقامة احتفالات لتأبين الفقيد .


في السابع عشر من تشرين ثاني ـ نوفمبر ـ عام 1983 أقمنا في غرفتنا رقم واحد حفل تأبين ونعي حيث ألقى عدد من الأسرى كلمات تعدد في مناقب الفقيد وخصوصا رفاقه الذي عاشروه منذ أول يوم دخل السجن ،محمود العبيدي ، عوني الوعري ، وألقى ممثلو الفصائل الوطنية كلمات تشيد بالمناضل الأسير رمز النضال الوطني ، تأثرنا جميعا عليه ،كل الكلمات حملت الإدارة مسؤولية قتله كما قتلوا غيره من قبل وفيما بعد ، أهملوا علاجه وتركوه يموت في صمت ، مات شهيد نفحة مع وقف التنفيذ ، وكان استشهاده وصمة عار في جبين إدارة السجون الإسرائيلية .
في ختام الحفل في غرفتنا وقفنا جميعا لنردد بصوت واحد قصيدة شاعر فلسطيني أظنه محمود درويش بصوت حزين هادئ

يحكون في بلادنا
يحكون في شجنْ
عن رفيق لي مضى
وعاد في كفنْ
وعاد في كفنْ

يحكون عن اسمه
لا تذكروا اسمه

( ثم أكملنا بصوت عال )

خلّوه في قلوبنا
خلّوه جرحا راعفا
لا يعرف المحنْ
لا يعرف المحنْ


عادل سالم
أديب فلسطيني
مايو 2005 م