التشريع وتوحيد الاتِّباع (4/ 4)

منذ 2015-11-17

السعي لإقامة دولة الإسلام التي توحد الله في التشريع والسياسة هو نوع من أنواع محاربة الوثنية، لا بالمعنى القديم الساذج الذي يعبد الطوطم والصنم، وإنما بنوع جديد من الأصنام والأوثان الحية المتحركة، تنطق من وراء أنظمة وضعية بشرية، يُخضعون لها عباد الله، ويُخضعونهم بها لهم، على أنقاض شريعة الله-سبحانه- التي تحررهم وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.

التشريع يدخل في توحيد الاتِّباع، أي اتِّباع الرسول(صلى الله عليه وسلم) وعدم تحكيم الشريعة المطهرة وترك الحكم بما أنزل الله قدحٌ في توحيد الاتَّباع للنبي (صلى الله عليه وسلم) بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65]، "يُقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدّسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّم الرسول (صلى الله عليه وسلم) في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرًا وباطنا"( ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 3، 211).

قال الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الأعراف:158]، فالإيمان بالنبي(صلى الله عليه وسلم) يقتضي توحيده بالاتباع، كما أن الإيمان بالله-سبحانه- يقتضي توحيده بالعبادة.

قال ابن القيم -رحمه الله-:"وأما الأدب مع الرسول فالقرآن مملوء به؛ فرأس الأدب معه كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسِل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما توحيد المرسِل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره"( انظر: ابن القيم، مدارج السالكين، (2، 387-388)).

وقال العلامة محمد بن إبراهيم:"وتحكيم الشرع وحده دون ما سواه شقيق عبادة الله دون سواه، إذْ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو المُتَّبَع المحَكَّم ما جاء به فقط، ولا جُرِّدَت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلا وتركا وتحكيما عند النـزاع.."(محمد بن ابراهيم، رسالة تحكيم القوانين).

ويقول سيد قطب:"إن توحيد الألوهية وتفردها بخصائص الألوهية، واشتراك ما عدا الله ومَن عداه في العبودية وتجردهم من خصائص الألوهية.. إن هذا مقتضاه: ألاّ يتلقَّى الناس الشرائع في أمور حياتهم إلا من الله. كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر إلا لله. توحيدًا للسلطان الذي هو أخص خصائص الألوهية. والذي لا ينازع فيه مؤمن ولا يجرؤ عليه إلا كافر.. والنصوص القرآنية تؤكد هذا المعنى وتحدده وتجرّده، بما لا يدع مجالا لشك أو جدال: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم}[ يوسف:40]،  {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم}[الشورى:21]، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(المائدة:44)، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}[ النساء:65]، ولا يفرق التصور الإسلامي-كما أسلفنا- بين التوجه لله بالشعائر، والتلقي منه في الشرائع.. لا يفرق بينهما بوصفهما توحيد الله، وإفراده – سبحانه- بالألوهية. كما لا يفرق بينهما في أن الحيدة عن أيٍّ منهما تخرج الذي يحيد من الإيمان والإسلام قطعا كما رأينا في النصوص السابقة.. "( سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي، 197-198).

وإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن الحكم بما أنزل الله في كل قضية والعمل بما أنزل الله في كل شيء هو توحيد الاتباع وخلافه هو شرك الاتباع.. والشرك هو الشرك!.

ومن ثم كان السعي لإقامة دولة الإسلام التي توحد الله في التشريع والسياسة هو نوع من أنواع محاربة الوثنية، لا بالمعنى القديم الساذج الذي يعبد الطوطم والصنم، وإنما بنوع جديد من الأصنام والأوثان الحية المتحركة، تنطق من وراء أنظمة وضعية بشرية، يُخضعون لها عباد الله، ويُخضعونهم بها لهم، على أنقاض شريعة الله-سبحانه- التي تحررهم وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.

سبقه:
التشريع وتوحيد الألوهية (1/ 4)

التشريع وتوحيدالأسماء والصفات (2/ 4)

التشريع وتوحيدالربوبية (3/ 4)

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.