الثقافة الإسلامية
خصائصها، تاريخها، و مستقبلها..
إن الحديث عن الثقافة الإسلامية حديث شيق وممتع وضروري، وذلك لما
للثقافة من أثر كبير في حياتنا المعاصرة وخاصة بعد أن تعرضت ثقافتنا
الإسلامية لأعنف هجوم فكري وغزو حضاري في تاريخها، ولقد صدر عدد من
الكتب حول هذا الموضوع، فقد أصدر الأستاذ مالك بن نبي كتابا أسماه
(مشكلة الثقافة)، كما صدر كتاب آخر عن مؤسسة فرانكلين الأمريكية
بعنوان (الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة).
وهو يشتمل على عدة بحوث ألقيت في مؤتمر عقد بأمريكا في صيف سنة
1953واشتركت في الدعوة إليه جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس. وهذا
الكتاب يمثل حلقة من حلقات الغزو الفكري للثقافة الإسلامية، وهو تخطيط
غير مباشر للمنحنيات والدروب التي ينبغي أن يسير فيها البحث الإسلامي
والثقافة الإسلامية، وهو باختصار الشرك الذي وضعته الولايات المتحدة
للفكر الإسلامي المعاصر، وهي تريد من ذلك إسلاما أمريكيا يصنع على
عينها..
ومن الوسائل العملية التي اتبعها المستشرقون ومن تأثر بهم من المسلمين والعرب في هذا الخصوص، ومن الدعوات التي مارسوا النشاط لها وترويجها:
1- القول ببشرية القرآن الكريم، وأنه ليس أكثر من تعبير عن انطباع البيئة العربية في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- القرآن الكريم تعبير عن الحياة التي وجد الرسول فيها، وهو لا يصلح لزمن آخر. وقد تولى كبر هذه الدعوة في بلادنا طه حسين.
3- لغة القرآن الفصحى لا تساير حاجات العصر فلا بد من العامية والحروف اللاتينية.
4- الإسلام لم يطبق إلا فترة قصيرة لذا فهو لا يوافق التطور.
5- التخلف عن تنفيذ تعاليم الإسلام أمر تميله الضرورة تحت ضغط الظروف.
6- تطوير الإسلام ليتفق مع الحضارة الغربية.
7- البحث عن مواضع الضعف وإبرازها لأجل غاية دينية أو سياسية.
8- تجريد الفكر الإسلامي من كل أصالة.
وقد استطاع المستشرقون أن يحققوا كثيرا من الأهداف التي خططوا لها، وأثاروا في العالم الإسلامي شبهات حول الإسلام ونبي الإسلام والمصادر الإسلامية، وأحدثوا في نفوس بعض المسلمين يأسا من مستقبل الإسلام، ومقتا على حاضره، وسوء ظن بماضيه، ومما ساعد المستشرقين على الوصول إلى أهدافهم:
1- وجود عدد من المسلمين الذين تبنوا آراءهم ونفذوا خططهم.
2- جمود التفكير الإسلامي.
3- الضعف السياسي وفقدان الثقة.
تحميل الإسلام مسؤولية التخلف.
الأخذ بنظام التعليم الغربي الذي هو ظل لعقائد واضعيه ونفسيتهم وغاياتهم، مع أن الثقافة الإسلامية والمدنية الغربية يقومان على فكرتين في الحياة متناقضتين تماما ولا يمكن أن يتفقا.
وإذا كان هذا هو غزو الثقافة الغربية والذي ما يزال قائما، فما هو
موقف المفكرين في البلاد الإسلامية من هذا الغزو؟ هذا ما يجاب عليه
بقولنا: نستطيع أن نميز عدة اتجاهات:
1- أولها: يتخذ موقفا سلبيا من الحضارة الغربية ويرفضها شكلا وموضوعا.
2- ثانيهما: يدعو إلى التغريب وأخذها بخيرها وشرها.
3- ثالثها: يدعوا إلى التوفيق بينهما على حساب الإسلام والعمل على تطويره.
4- رابعها: يدعو إلى الاحتفاظ بالإسلام حسب القرآن والسنة والأخذ من الحضارة الغربية بما لا يتعارض مع الإسلام.
أما الاتجاه الأول فلا يستحق الوقوف عنده لأنه سوء تفسير للدين الذي يحث على استعمال العقل، والتفكير في الكون، واقتباس الصالح النافع، وإعداد القوة.
أما الاتجاه الثاني فهو موقف المستسلم للحضارة الغربية، المقلد لها، وقد مثل هذا الأتجاه مصطفى كمال في تركيا، ووجه كفاحه إلى محاربة الإسلام وإقامة المجتمع التركي على العلمانية وقطع كل صلة له بالإسلام وبالعربية. وفي الهند تحمس لاتجاه التغريب أحمد خان والمدرسة الفكرية التي أسسها والتي تدعو إلى تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيرا مطابقا لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر المسيحي.
أما في مصر فقد كان الاتجاه إلى التغريب قويا ومتحمسا، ويمثل هذا
الاتجاه كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين حيث يؤكد فيه أن صلة
المصريين بأوروبا أكثر من صلتهم بالشرق، وأن الثقافة المصرية جزء من
الثقافة الغربية الأوربية، وأن فترة الحكم الإسلامي كله لم تغير من
الأمر شيئا. ونهضة مصر في نظرة امتداد لمصر الفرعونية "وأنا من أجل
ذلك - يقول الدكتور طه - مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكارا، ولن
تخترع اختراعا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة لخالدة، ومن أجل هذا لا
أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد -
الفرعوني - وحاضرها القريب" ثم يقول: "فأما الآن وقد عرفنا تاريخها،
وأحسسنا أنفسنا، واستشعرتا القوة والكرامة، واستيقنا أن ليس بيننا
وبين الأوربيين فرق في الجوهر، ولا في الطبع، ولا في المزاج، فإني لا
أخاف على المصريين أن يفنوا في الأوربيين".
أما الاتجاه الثالث وهو اتجاه تطوير الإسلام والتوفيق بينه وبين الثقافة الغربية، فإنه يرى أن صالح الثقافة والمجتمعات الإسلامية في التطوير كيما يوافق الإسلام الأمر الواقع في الحياة العصرية.. وخطر هذا الاتجاه يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يشوش قيمة ومفاهيمة الأصلية بإدخال الزيف على الصحيح وإثبات الدخيل الغريب وتأكيده، أما الوجه الآخر فهو أن هذا التطوير سينتهي بالمسلمين إلى الفرقة التي لا اجتماع بعدها، لأن كل جماعة منهم سوف تذهب مذهبا يخالف غيرها من الجماعات ومع توالي الأيام نجد ثقافة إسلامية تركية وهندية وإيرانية وعربية.. وقد استدرج الشيخ محمد عبده لهذا الاتجاه، كما كان من دعاته فيما بعد قاسم أمين الذي تبنى العمل على تطوير وضع المرأة والعلاقات الاجتماعية عموما، وعلي عبد الرزاق وسعد زغلول اللذان تبنيا الدعوة إلى الوطنية والقومية والعناية بالتاريخ الفرعوني، والأخذ بالنظام السياسي الغربي على أساس أن الإسلام دين لا حكم.
أما الاتجاه الأخير الذي اتجه إليه المسلمون في تحدي الثقافة الغربية لهم فهو ذلك الذي يواجه الحضارة الغربية مواجهة الواثق بنفسه المتمكن مما عنده من إمكانات وطاقات، فهو يميز بين الثقافة كمذهب ورأي وروح تتميز به الأمة عن غيرها، وبين شؤون الحضارة والعمران والمدنية، ويدعو إلى إيجاد تيار قوي يواجه الحضارة الغربية بشجاعة وإيمان.. هذا الاتجاه يأخذ الإسلام عقيدة وعبادة ونظام حياة، في الوقت الذي يأخذ فيه من الغرب: الآلات والوسائل الفنية - إلى أمد - ويعامل الحضارة الغربية كمادة خام يستفاد منها للخير أو الشر.
وقد ظهر هذا الاتجاه في عدد من البلاد الإسلامية: ففي الهند ندوة
العلماء التي أعلنت عن أهدافها بعبارات محددة "إحداث فكر جديد يجمع
بين محاسن القديم والجديد، بين القديم الصالح والجديد النافع، بين
التصلب في الأصول والغايات والمرونة في الفروع والآلات". وفي باكستان
تحدد الجماعة الإسلامية أهدافها على النحو التالي: "عبادة الله وعدم
الإشراك به - إخلاص الدين لله، وتزكية النفس من شوائب النفاق،
والأعمال من التناقض - إحداث إصلاح عام في أصول الحكم الحاضر، وانتزاع
الإمامة الفكرية من الطواغيت والكفرة والفجرة ليأخذها رجال لا يريدون
علوا في الأرض ولا فسادا".
وفي السعودية فقد بدأت الحركة الإصلاحية الإسلامية بدعوة الشيخ محمد
بن عبد الوهاب وملخص ما دعا إليه ابن عبد الوهاب العودة إلى الدين
الصحيح، ونبذ البدع والخرافات وكل ما هو دخيل على الإسلام والفكر
الإسلامي، والاستقاء من معين الإسلام الصافي: القرآن، والسنة وعلم
السلف الصالح. ومن الحركات التي نحت هذا المنحى في الدعوة إلى
الاحتفاظ بالإسلام وثقافته وشخصيته الأمة الإسلامية مستقلة متميزة
الحركة السنوسية في ليبيا، وجمعية العلماء الجزائريين في الجزائر
وزعيمها عبد الحميد بن باديس ثم الشيخ الإبراهيمي من بعده، التي
استطاعت عن طريق مدارسها المختلفة أن تحافظ على ثقافة الشعب الجزائري
الأصيلة وارتباطه بالإسلام والعروبة.
أما في إندونيسيا فإن أبرز الجماعات الداعية إلى هذا الاتجاه جماعة
دار الإسلام، وفي تركية نجد الحركة النورية التي أسسها الشيخ سعيد
النورسي رحمه الله.
ومن هذه الحركات أيضا جماعة الإخوان المسلمين التي تشمل البلاد العربية بلا استثناء، والتي تعد أوسع حركة إسلامية شاملة عرفها المسلمون في العصر الحديث.
ولقد اشترك الكثيرون من المفكرين المسلمين من أصحاب هذا الاتجاه في
نقد الثقافة الغربية، وإعادة الثقة بالثقافة الإسلامية ومنابعها
الأصلية، وقد تركت مؤلفات حسن البنا، وسيد قطب، وأبو الأعلى المودودي،
ومالك بن نبي، وعلي سامي النشار، والأمير شكيب أرسلان، وأبو الحسن
الندوي، ومحمد البهي، والدكتور محمد محمد حسين، ومصطفى صادق الرافعي،
ومحمد الخضر حسين ومصطفى السباعي أثرا كبيرا، وأوجدت تيارا قوي الثقة
بالنفس بعد أن وصل فقدان المسلمين الثقة بأنفسهم ومظاهر شخصيتهم حدا
مخجلا جعل الدكتور طه حسين يعتذر عن بدء محاضرة له في اللغة والأدب
بحمد الله والصلاة على نبيه قائلا: "سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني
ابدأ المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة
العصر".
ثم ننتقل للحديث عن مستقبل الثقافة الإسلامية ليقرر أن مستقبلها يتصل
بأمور ثلاثة:
طبيعة الإسلام الذي يعطى هذه الثقافة طابعها المميز - طبيعة
الثقافة ذاتها وقدرتها على البقاء والنمو - وجود الحاجة إليها أو
فقدانها.
أما طبيعة الإسلام فنحن المسلمين نعتقد أن القرآن باق أبد الدهر، وإذن فالمعين دائم ثر لا ينضب، وقد أثبت الإسلام قدرته على البقاء في مختلف الظروف.
أما عن طبيعة الثقافة المنبثقة عنه، فقد علمنا أنها ثقافة شاملة متكاملة، وأقرب الثقافات إلى البقاء والصمود ما كان كذلك. أما عن الحاجة إلى هذه الثقافة فنحن نعتقد أنها متجددة على الدوام، وذلك في نطاق العرب والمسلمين والإنسانية جمعاء، فالعرب والمسلمون دون الإسلام مفرقون ضائعون فاقدون لكل مقومات الحياة، وهم بالإسلام أمة واحدة وكيان قوي واثق من نفسه شاعر بعظم الرسالة التي يحملها وأفضليتها، وقد يصبحون القوة الأولى في العالم إذا أدركوا قيمة رسالتهم. ولا تقل حاجة الإنسانية للإسلام عن حاجة العرب والمسلمين، لأن الحضارة الغربية تخلت عن المثل والقيم وأصبحت الآلة وسيلة إضرار وانقلب الإنسان إلى وحش كبير.
راجع كتاب دراسات إسلامية (إسلام أمريكاني) حصوننا مهدودة من داخلها،
صفحة:15.
- التصنيف: