زفرة المقدسي الأخير
أسطورة "زفرة العربي الأخير"، هل تراها تتكرر -بعد عرض لما يعانيه المقدسيون- لتُصبح "زفرة المقدسي الأخير"؟ فيأتي زمان نروي لأجيالنا القادمة أسطورة مسجد ومدينة عتيقة، وأعراب قاتلت الاحتلال بأبواق الإذاعة وميادين الشجب والاستنكار.
تقول الأسطورة: بأن هناك ملكًا عربيًا سلّم بلاده للأعداء بعد وقوفه منفردًا في وجههم -وبعد التسليم- وقف على رابية مرتفعة مطلًا على مدينته، مودّعًا تلك البقاع التي تركها خلفه وصدره ملؤه الأسى والحسرة على ما تنازل عنه وبدده، وزفر زفرات الألم والفقد وهو راحل عنها مفارق لها، فأُطلق على ذلك الموضع الذي وقف عليه "زفرة العربي الأخير".
وفي مُقاربة لحالة الارتحال عن البلاد -ولكن بشكلها الاضطراري الجبري- ليس هناك في هذا العصر مدينة تعاني الإفراغ والتضييق مثل مدينة القدس المحتلة، وهي التي تعرضت لهجمات متتالية منذ احتلال شطرها الغربي في مناسبة قلل من وقعها العقل الجمعي العربي وأطلق عليها "النكبة" عام 1948م، وخلال أحداثها وبُعيدها قامت عصابات الصهاينة بعمليات إبادة منظمة للفلسطينيين، ووقعت مجازر مروعة كدير ياسين والصالحة واللِّد وغيرها الكثير... قُتل خلال هذه المجازر الوحشية المئات من السكان الآمنين الذين رفضوا مغادرة أراضيهم على الرغم من التهديدات الهائلة، ودُمرت حينها أكثر من 400 بلدة وقرية فلسطينية ولم يعد لها وجود يُذكر سوى أطلال وخرائب؛ وبذلك استطاع الصهاينة تأسيس موطئ قدم وكيان سرطاني استيطاني مكان هذه القرى، ولم يعد في الشطر الغربي من القدس وجود لأي فلسطيني.
وبعد الانتكاسة الثانية -والتي لم تبعد عن الأولى سوى عشرين عامًا فقط- واحتلال الشطر الشرقي من المدينة، ودخول جنود الجيش الإسرائيلي للبلدة القديمة وللمسجد الأقصى المبارك عام 1967م؛ في ظل الهزيمة العربية النكراء، وسيل الأكاذيب التي أُطلقت، وتحريف الحقائق، واصطناع بطولات مزيفة، وانتصارات الإذاعات المُحرَّفة؛ حتى ظنَّ الكثير من البسطاء أننا قذفنا المحتلين في البحر وانتهت القضية! ولكن الاحتلال دخل بقواته الجرارة للمدينة المباركة وهو يقود مشروعًا واضح المعالم؛ ليُحوِّل القدس ويغير طابعها، مزورًا في طريقه التاريخ وأوابد الحضارة وصروحها، ويُهَوِّد كل شبر وزقاق فيها.
منذ ذلك التاريخ والتهديد يطال كل من بقي من المقدسيين في المدينة، وهم -ومنذ ثمانية وأربعين عامًا- يعانون من تغريبتهم الخاصة؛ فهم مُشردون داخل مدينتهم، سكَّان بلا هوية ولا مرجعية، تتلاعب بهم قوانين العدو الغاشمة بطريقة تصل للسذاجة أحيانًا؛ لا لشيء إلا لدفعهم لمغادرة القدس هروبًا من شظف العيش أو كرهاً بالطرد والإقصاء القهري.
أعوام القدس ليست مددًا للتغني بماضٍ تليد وواقع مزدهر؛ بل هي سنوات عجاف، استُهدف فيها أصحاب الحق والأرض بكل تفاصيل الحياة اليومية، فقد شهدت على مدى هذه السنين العجاف هدم آلاف المساكن وتشريد أهلها خارجها في إطار الحرب الديمغرافية التي تقودها سلطات الاحتلال وأذرعه المختلفة، وعلى رأسها بلدية الاحتلال في القدس. سياسة الهَدم: سياسة منهجية؛ تُفَرَّغ خلالها مناطق بعينها من السكان، ثم تُعطى هذه المساحات لشركات الاحتلال الاستثمارية أو لأذرعه الاستطانية لتشكيل بؤرٍ دخيلة على جسد المدينة المترهل التعب، بؤر تتمدد مع الحكومات وتتصاعد مع الاعتداءات.
ومن جانب آخر يقوم الاحتلال بتجريع المقدسيين مرارة الحياة في المدينة؛ يسحب بطاقات إقامتهم ويُعرقل أي منشط من مناشط الحياة خارج القدس؛ في حال أراد المقدسي الدراسة أو العمل فهو سجين إثبات إقامته في القدس ليحصل على هويته، وقد سحب الاحتلال منذ عام 1967 حتى 2013 أكثر من 14 ألف بطاقة! رقم يُدلل على عدد هائل طُرد قسرًا من مدينته وحُرم من أبسط حقوقه ومقومات معيشته. شعب لا وطن له سوى جدران وأزقة القدس العتيقة وبَرَكة مسجدها الأبيّ. حتى الزواج من خارج جدران القدس من البلدات الفلسطينية المجاورة أو من الضفة الغربية تكتنفه صعوبات بالغة لا يمكن لمقال بسيط أن يحيط بها ويستوعبها. مرارات؛ تضاف لضرائب الثبات والمصابرة ومواجهة العدو.
يُشَكِّل المقدسيون الجدار الأول -وربما الأخير- للدفاع والذود عن المسجد الأقصى المبارك. فهو محركهم الأول في هبتهم الشعبية، تراهم يَعْمرونه ويدافعون عنه وينوبون عن مئات الملايين من العرب والمسلمين في هذا الواجب المُقدَّس. لم يستطع العكاري –على سبيل المثال– أن يتحمَّل التدنيس المتواصل لجنبات الأقصى من قِبَل شراذم المستوطنين، ولم يقدر أن يتصور أن يغلق الاحتلال أبوابه أمام المصلين فيه، فاستخدم السلاح الوحيد المتوفر بين يديه ودهس بسيارته عددًا من جنود الاحتلال عند أحد محطات القطار الخفيف. بطولة فردية وقودها حُب الأقصى ومواصلة المواجهة مع هذا العدو، ومثله الشلودي وحجازي والعديد من أبطال القدس جنود الأقصى وحراسه.
هذا غيض من فيض معاناة المقدسيين -إلى جانبها الطرد والاعتقال والإبعاد عن الأقصى وعن القدس ومحاصرة المقدسيين في أرزاقهم وأعمالهم والضرائب المرتفعة الكبيرة التي تُثقل كاهلهم- نموذج مُصَغَّر جدًا لآلاف النكسات اليومية في أزقَّة القدس وحواريها.
ولكن السؤال الأصعب -في معادلة الصراع مع الاحتلال- عن قدرته تحقيق مآربه وتنفيذ مخططاته، وإحاطة المسجد الأقصى ببحر من الصهاينة المعتدين الذين يستعدون لتحويله من خلال مشاريعهم وعملهم الدؤوب لمعبدهم المفترى؛ وهل سيزفر المقدسي الأخير -وهو خارج من المدينة مُكرهًا وحيدًا- زفرات الفقد والإبعاد، بعد أن وقف معه إخوته العرب والمسلمون وقفات وهمية عبر بيانات الشجب والاستنكار والدعم الغُثائي الذي ما منع معتديًا ولا غيّر واقعًا؟ فيأتي زمان نروي لأجيالنا القادمة أسطورة مسجد ومدينة عتيقة، وأعراب قاتلت الاحتلال بأبواق الإذاعة وميادين الشجب والاستنكار.
--------------
بقلم: علي إبراهيم.