رجل اشرأبت الأعناق لرؤيته
كلمة انطلقت من فم الحبيب عليه الصلاة والسلام، فاشرأبت لها الأعناق وتحدقت لها الأبصار، لتشنف الآذان وتلجم ألسنة الصحب الكرام، خرجت من فم من لا ينطق عن الهوى، خرجت في أسلوب فريد وعرض مشوق، فبعد أن كان السكون يخيم على الصحب الكرام، هيبة من الجلوس بين يدي نبي الإسلام، يرقبون كلمة نور وهدى، يتحرك بها لسان المصطفى.
كلمة انطلقت من فم الحبيب عليه الصلاة والسلام، فاشرأبت لها الأعناق وتحدقت لها الأبصار، لتشنف الآذان وتلجم ألسنة الصحب الكرام، خرجت من فم من لا ينطق عن الهوى، خرجت في أسلوب فريد وعرض مشوق، فبعد أن كان السكون يخيم على الصحب الكرام، هيبة من الجلوس بين يدي نبي الإسلام، يرقبون كلمة نور وهدى، يتحرك بها لسان المصطفى، لبيان حكم، أو تبليغ آية، أو وصاية بأدب، إذ يفاجأ القوم بكلمة اقشعرت منها الأبدان والقلوب، كلمة تخطت عظماء الإسلام وأهل التقى والإيمان، فما تلك الكلمة، إنها كلمة لا تقدر بثمن، ولا توزن بميزان، فارعِ لها سمعك وافتح لها مغاليق قلبك، قال عليه الصلاة والسلام: « » (الترغيب والترهيب[4/32])، رجل من أهل الجنة، رجل مبشر بروح وريحان، وربٍ راضٍ غير غضبان، فمن هو، وما اسمه ومن أي بلد ومن أي قبيلة، وأي أرض تقله وأي سماء تظله، فهيا لنسمع خبره ونستمع بقصته.
إنه رجل من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن الصحب الكرام، لا يعرفه الكثيرون، لكنه رجل بألف رجل، رجل لا تسل عما احتوى القلوب من الرجاء أن لو كانت ذلك الرجل، رجل لا تسل عما ملأ النفوس من معاني الإكبار والإعظام للمبشر بالرضوان، المبشَّر بالنعيم المقيم، والفوز الذي لا يعقبه خسارة، والخلود الذي ليس وراءه فناء أو زوال.
ليس المهم من هو، ولكن الأهم لماذا بُشِّر؟ وما عمله الذي بلّغه تلكم المنزلة، وأوصله ذلك الشرف؟ حتى اشرأبت الأعناق إليه وتحدقت له الأبصار، تنظر وتتسابق لرؤيته، تتسابق لرؤية رجل من أهل الجنة يمشي على الأرض، يطأ الأرض بقدميه ويمشي الهوينا، لم تغادر روحه الطاهرة بعد إلى منازله في الجنة، وبينما هو يمشي ويتابع المسير والناس تترقب قدومه، وهو لا يشعر بما دار وقبل فيه، وتتابع خطاه ويعلو همسها والصحب الكرام يترقبون طلوعه وشروق وجهه المنير بنور الإيمان، تترقب الأبصار رؤيته وتنصت الآذان لسماع خطى دنوه منها، لينظروا لصاحب البشارة وأنعم وأكرم بها من بشارة، {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [آل عمران:185].
إنه رجل حجز مقعده في جنان الخلد، رجل ينتظر تذكرة سفره إلى الجنة، في رحلة خالدة أبدية، لينعم بطيب عيشها ويهنأ بمتاعها ونعيمها، ويشرب من السلسبيل وليزوج بالحور العين، ويبيت في خيام اللؤلؤ المعطرة بالمسك والرياحين، وتتسابق الخطى ويترقب المترقبون، فيخرج عليهم رجل يتهلل وجهه نورًا وضياءً، تنطف لحيته من وضوئه وقد علّق نعليه بيده الشمال، فتبكي العيون من عظم البشارة، وتتقطع القلوب حسرة وندامة، حسد غبطة ورجاء نعمة، وتواصل الأنظار متابعته بشوق وحب حتى غاب سواده عنهم دون أن يكلمه أو يقرب منه أحد، وهو لا يعلم عن البشارة شيئًا.
وبعد أن غاب عن الأنظار وشرقت شمس اليوم التالي وانعقد المجلس الثاني للحبيب عليه الصلاة والسلام وامتلأت مجالس الأمس بخبر البشارة، يعيد النبي صلى الله عليه وسلم كلمته المدوية لصحابته مرة أخرى فيقول: « »، ولعل الصحابة ظنوا أن هناك رجل آخر غير الذي بشر بالأمس، لكنهم فوجئوا بأنه الرجل نفسه، نعم الرجل نفسه، ليس هناك أحد غيره فما السر في قدر الله لمجئ هذه الرجل مرة تلو مرة وفي ثلاث ليال متتالية، إنه القدر الذي كان لموسى فكان لهذا الرجل مثله، {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، ويا للعجب كيف تتكرر البشارة لنفس الرجل ولا يخرج أحد غيره، إنه تقدير العزيز العليم، حبس الناس عن الخروج ليخرج هذا الرجل المؤمن فقط، كما حبس سبحانه الفيل عن هدم بيته العتيق، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب:38].
إن ذلك التكرار في البشارة ليدل دلالة واضحة على عظم ما كان يعمله هذا الرجل من خير بينه وبين الله تعالى، ولذلك استحق أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: « »، قام النبي صلى الله عليه وسلم من مجلسه الثالث بعد بشارته الثالثة، وقام الصحابة معه وقلوبهم ممتلئة ندمًا أن لو كانوا ذلك الرجل، وقام عبد الله بن عمرو بن العاص، ليتبع الرجل، ويستجلي خبره لأنه يريد الجنة ـ يريد النجاة، يريد مرضات الله، ولسان حاله يقول، والله لأرين ماذا يفعل هذا الرجل حتى أفعل مثله، وأنجو كما نجى، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] هؤلاء العقلاء هؤلاء أولو الألباب الذين علموا نعيم الآخرة فشمروا لها رغبة فيها، وعلموا جحيم الآخرة فأجهدوا أنفسهم هربًا منها، فأين عقلاء اليوم؟!
يطرق عبد الله بن عمرو بن العاص الباب ثلاثًا، فيفتح ذلك الرجل بابه وقد تلألأ وجهه نورًا وإشراقًا بنور الإيمان، رجل مهاب لأن من خاف الله أخاف الله الناس منه هيبة وإجلال، وهذه هيبة المؤمن يهبها الله لمن شاء من عباده، وما إن فتح الرجل الباب حتى بادره عبد الله بن عمرو بن العاص بقوله: "يا أخا العرب إني لاحيت أبي -أي تشاجرت معه- فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث"، فقال الرجل المؤمن: "نعم"، وهذه شيم المتقين، شيم الكرماء، قال أنس رضي الله عنه فكان عبد الله يحدث: أنه بات معه تلك الثلاث الليالي، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعارّ -أي تقلب على فراشه- ذكر الله عز وجل، وكبّر حتى يؤذَن لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أحتقر عمله، قلت: "يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة"، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: « »، فطلعت أنت الثلاث ليال، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك فاقتدي بك فلم أركَ عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله، فقال الرجل المؤمن: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهذه التي لا نطيق، قالها متواضعًا رضي الله عنه، وإلا والله أنها يسيرة لمن يسرها الله له قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89].
نعم هذه هي التي بلغت به تلكم المنزلة، فرفعت قدره، وأعلت شأنه، فها هو ذا يسير بين الناس، بل بين أفضل الناس، يُشار إليه بالبنان: بأن هذا الموعود بالنعيم والرضوان لم يكن طويل القيام والصلاة، قد يُحتقر عمله ويستقل، ولكنه كان يحمل قلبًا طاهرًا، طهارة الماء العذب الزلال، نقيًا، نقاء الثلج والبرد مشرقًا بنور الإخاء والمحبة، ساطعًا بضوء السلامة وحب الخير للناس، سليماً من الحقد والغش والحسد.
سلم قلبه ولسانه للمؤمنين، وطاب حديثه وطاب قلبه وطاب مجلسه،.إن تحدث لم يؤذ، ولم يتتبع عورة مسلم ولم يهمز مسلمًا أو يذكره بسوء، كافٍ قلبه ولسانه عن كل ما يغضب الله تعالى، فأين مثل هذا اليوم، ممن يتفكهون بالأعراض ويزدرون الناس بحق وغير حق لا هم لهم إلا القيل والقال وسوء القول والمقال، فقبح الله هذه القلوب المنتنة المظلمة التى أجلت عن قلوبها نور الأيمان والخوف من الرحمن فملئت ضيقًا وران، ووقعت في منكر القول والعصيان.
فكن أخي كالنحلة تلقُط خيرًا وتلقي شهدًا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قلنا: « » (صحيح الترغيب[2931]).
الله، عباد الله: ربما عجز الشيطان من أن يجعل الرجل العاقل المسلم يسجد لصنم، أو يؤلّه حجرًا أو شجرًا، ويتمسح بقبر أو ضريح؛ ولكنه لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه، وهو يحتال لذلك بإيقاد نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم، وتلتهم علائقهم وفضائلهم، الحقد والعداوة والبغضاء هي المصدر الدفين لكل رذيلة رَهَّبَ منها الإسلام، افتراء على الغير، وسوء ظن، وتتبع للعورات، لمز وهمز، تعيير بالعاهات والمناقص.
وهذه كلمة أخص بها أهل الضغائن من مليئت قلوبهم بالضغينة رجاء توبتهم وإقلاعهم عن غيهم، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « » (الترغيب والترهيب[3/391]، فلا يرفع لهم عمل، ولا تمنح لهم مغفرة، حتى تُزال سخائم قلوبهم من ضغائنها، ودفائن البغض والعداء، فتصور ـأيها الحبيب المحب للخير وأهله ـ يوم يَستسلم الإنسان لهواه، وينقاد لألاعيب الشيطان وحزبه، كيف هي حاله وكيف هو مآله، فبشراك! بشراك ياصاحب القلب السليم بجنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إذا رضي الله عنك، فما يضرك إن سخط الناس عليك وقد رضي الله عنك. فسلامة القلب للمؤمنين، عطية ربانية، ومنحة إلهية، يهبها من يشاء من عباده.
وإن الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى اتحاد الصف، وجمع الكلمة، ونبذ العداوات والشقاق قال تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. وقال صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح مسلم[2586]).
اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا وثبت حجتنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأقوال.
عبد الله قهبي.
- التصنيف:
- المصدر: