أوباما.. بنديكت 16.. والأوسكار!!

منذ 2009-07-29

منذ الرابع من يونيو 2009 وحتى اليوم (11/6/2009)، لم يتوقف سيل التعليقات حول الخطاب القائم على المغالطات، الذي ألقاه الرئيس باراك أوباما في جامعة القاهرة ، دون أن يوجهه - على غير العادة، لا للحضور ولا للدولة المضيفة، وكأنه يضعهم منذ الوهلة الأولى في حيّز التبعية الذي ارتضوه لأنفسهم طواعية، وبذلك فعليهم الاستماع ثم القيام بالتنفيذ ..

وعلى الرغم من أن هذا السيل من الكتابات قد امتد من التهليل اللزج إلى التحليل الرصين، إلا أن أحدا لم ينتبه إلى التوافق الشديد بين كلٍ من أوباما وبنديكت 16، في هذه المسرحية القديمة-الجديدة التى يؤديانها، رغم اختلاف المجالين، ببراعة جديرة بالأوسكار!!، وقبل أن ننتقل إلى عرض التوافق الفاتيكاني، نتناول فى عجالة أهم المغالطات الواردة في الخطاب الأمريكي:

تحت شعار تسويقي قائم على عبارة "المصالح المشتركة"، وعرض سريالي طُمست فيه معالم الواقع الاستعمارى التدميري الأمريكي، وعبارات بهلوانية الرشاقة، تحدث أوباما عن الحرب الشاملة على الإرهاب وأنها لن تتوقف!!، ومعروف أن عبارات الإرهاب والتطرف والعنف تتساوى لديه وهي المسميات التي تم إلصاقها بالإسلام منذ أحداث مسرحية 11 سبتمبر 2001، الثابت صناعتها محلياً، للتلفع بشرعية دولية لاقتلاع الإسلام والمسلمين .. وذلك تنفيذا لقرارات مجمع الفاتيكان الثاني (1965).. أي أن هذه الحرب المعلنة على الإسلام لن تتوقف وإنما اتخذت مسميات تمويهية جديدة!!

وتحدث عن القضية الفلسطينية بأن طالب الفلسطينيين بوقف "العنف"، ولم يشر إلى جرائم الحرب والقتل العرقي والإبادة الجماعية التي يمارسها الصهاينة ضد الفلسطينيين، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، ولم يذكر الحصار المفروض على غزة للآن خاصة بعد دكها لأكثر من ثلاثة أسابيع بالفوسفور الأبيض والأسلحة المحرمة دوليا، دون أن يعاقب الصهاينة، واكتفى بالإشارة إلى حل الدولتين!!، وعدم مصداقية هذا الهرج أن أرض فلسطين قد تم احتلالها بوحشية وقحة لم تترك منها إلا الفتات الذى ينهشونه خطوة خطوة.. وقد تم احتلال القدس تماما عام 1967، ومنذ عام 1980 جعلها الصهاينة العاصمة الموحدة لدولة إسرائيل.. وقد أعلن نتنياهو بمناسبة "العيد ال 42" لاحتلال الجزء الشرقي من القدس قائلا: "القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل. إن القدس كانت وستظل دوما لنا. ولن يتم تقسيمها أو انقسامها أبدا بعد الآن" .. وباقتراح أوباما مباحثات مباشرة بين الفلسطينيين والصهاينة واستبعاد الولايات المتحدة فقد ضمن غرق الملف نهائيا في قاع الوحل!!

وتحدث عن السلاح النووي في الوقت الذي يقود فيه الأنظمة العربية، الضامنة للوجود الصهيوني، إلى مساندة حربه المرتقبة ضد إيران، دون الإشارة إلى الترسانة النووية التي يمتلكها الصهاينة والتي تمثل خطراً حقيقياً على كل منطقة الشرق الأوسط بل وعلى العالم أجمع.. وتناول الحديث عن الديمقراطية دون الإشارة إلى أنها كانت الذريعة الكاذبة لدك العراق إلى ما قبل العصر الحجري، كما غض الطرف في نفس الوقت عن قوانين "باتريوت 1 وباتريوت 2 " التى تكبّل حريات مواطنيه بصورة لا سابقة لها في التاريخ!!

أما حديثه عن حقوق المرأة فقد تناسى، المسلم السابق، أن تعاليم الإسلام خاصة بالرجل والمرأة على السواء ولا تفرق بينهما إلا فى الميراث والشهادة ، وكلاهما مشروح سببه بوضوح لا لبس فيه ولا يمس كرامة المرأة أو مركزها، وأن القرآن الكريم بدأ بفعل أمر: "اقرأ"، وهو أمر موجه للجميع، وكل ما طرحه، برشاقته المحسوبة، فى هذه النقطة فيدخل فى نطاق مؤتمرى المرأة والسكان.. وأهدافهما الانفلاتية معروفة!! ولا أقول شيئا عن الفتات التى ينوي تقديمها لشعوب قامت سياسة بلده بتحطيمها وأبادت بنياتها الأساسية ودمرت اقتصادها واستولت على ثرواتها وحولهتا إلى خرائب غير صالحة للعيش الآدمي، وحتى وإن كانت هذه الفتات تعد بالمليار الذي تشدق به، فما جدواها خاصة وأنها وعود ناجمة عن دولة مفلسة.. مفلسة في كل شيء إلا من العنف والغطرسة وتلال من الأكاذيب!!

وإذا ما قمنا بتلخيص الخطاب في كلمات لوجدنا أنه أتى ليحيطنا علماً بأنه فُرضت علينا الشراكة، بمعنى أن تكون لنا نفس الاهتمامات ونفس التحديات، وأن نقوم بتنفيذ مطالب السيادة الأمريكية الظالمة بأيدينا، أو بقول آخر: جاء يحيطنا علما بأنه علينا التواطؤ في تحالف عربي-أمريكي-صهيوني ضد الإسلام والمسليمن.. أو بقول أوضح: جاء يسند إلينا مهمة تصفية العالم الإسلامي والعربي بأيدي المهرولين من أبنائه، من خلال لعبة "حوار الحضارات"، التوأم الجديد للعبة "حوار الأديان" التى انفضح أمرها ..

وعبارة "حوار الأديان" ، لمن لا يعرف معناها، هى أحد قرارات مجمع الفاتيكان الثانى (1965) الذ كان قد قرر اقتلاع اليسار في عقد الثمانينات؛ واقتلاع الإسلام في عقد التسعينات، حتى تبدأ الألفية الثالثة وقد تم تنصير العالم؛ وقرار تنصير العالم تطلب إنشاء لجنتين: إحداهما لتنصير الشعوب، والأخرى للحوار.. والحوار في النصوص الفاتيكانية يعني "فرض الارتداد والدخول في سر المسيح" كما يعنى "كسب الوقت حتى تتم عملية التنصير" .. ومن بين قراراته أيضا: فرض الاشتراك في عمليات التنصير على كافة المسيحيين في العالم، كما فرض الاستعانة بالكنائس المحلية في عمليات التبشير والتنصير. الأمر الذي يضع ولاء الأقليات المسيحية محل نظر بالنسبة للبلدان المسلمة التي يعيشون فيها..

واستكمالا لوضوح الرؤية بالنسبة للقارئ غير المتابع للأحداث، فعندما لم يتم تنصير العالم وفقا للترتيبات المفترضة، قام مجلس الكنائس العالمي، في يناير 2001 ، بإسناد مهمة اقتلاع الإرهاب والعنف، الذي هو الإسلام في نظرهم، إلى الولايات المتحدة، بحكم أنها باتت أقوى دولة بعد أن تم اقتلاع اليسار، على أن يتم ذلك فى هذا العقد أي في غضون عام 2010 .. وفي 11 سبتمبر من نفس عام 2001 اختلقت السياسة الأمريكية مسرحيتها الشهيرة، القائمة على نظرية التدمير تحت السيطرة، للتلفع بشرعية دولية لاقتلاع الإسلام والمسلمين .. وتم إلصاق مسمى الإرهاب والعنف بالإسلام بشتى الوسائل التي يمكن أو لا يمكن تصورها ..

ولمن لا يذكر أو لم يعاصر الأحداث في عقد الثمانينات، أوضّح في عجالة أن اقتلاع اليسار قد تم بتضافر الجهود بين البابا السابق، يوحنا بولس الثاني، والرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان، بالتواطؤ مع الرئيس السوفييتي جورباتشوف.. فبلا عميل أو طاقم من العملاء في مختلف المجالات، داخل المسرح الذي يتم العبث فيه، لا يمكن لقوى الشر مجتمعة أن تحقق أغراضها ..

ولكل من فاته متابعة خطب البابا بنديكت 16 أثناء رحلته إلى الأراضي المقدسة من 8 إلى 15 مايو الماضي، أي منذ أقل من شهر تقريبا قبل خطاب أوباما، نشير باقتضاب إلى النقاط المشتركة التي تناولاها -رغم التفاوت الواضح بينهما شكلاً وأسلوباً:

* بدء حوار مع الإسلام بأسلوب جديد بعيدا عن انقسامات الماضي.

* اقتراح الأراضي المقدسة كمكان للتعايش السلمي بين اليهود والمسيحيين والمسلمين.

* توضيح أن العنف والتطرف يسيئان إلى الإسلام.

* إنقاذ حل الدولتين في المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية.

* المطالبة بحرية العقيدة وحرية اختيار الدين، كما أوضحها كلا منهما تحديداً، واحترام حقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية مع إتاحة فرصة أكبر للديمقراطية ولتحرير المرأة.

* الاعتراض على التسليح والتسليح النووي وعلى استخدام العنف لحل الخلافات، مع التلويح لإيران..

وكل هذه النقاط المشتركة بين الخطابين تفسر الترحيب الشديد الصادر عن الفاتيكان، بل أن كثير من الخبراء يشعرون "أن ثمة شيء ما يتم الإعداد له في الخفاء" .. بل أنها توضح لماذا لم يعلن البابا معارضته صراحة لموقف أوباما من الإجهاض ووسائل منع الحمل، وإنما تمالك من أجل منفعة مشتركة أكبر بكثير..

وقد علّق الأب جيوزيبى صرّاف، أسقف الكلدانيين في القاهرة، لمكتب الاستعلامات الدينية ((sir قائلا: "إن الرسالة الناجمة عن الخطاب تعنى العمل معا لإيجاد حلٍ لبرنامج متكامل: الديمقراطية، الإرهاب، حرية العقيدة، حقوق الإنسان، كرامة المرأة، العولمة، وكلها قضايا في قلب الصراع بين المعتدلين والأصوليين في العالم الإسلامي. نرجو أن يتمكن الإسلام والعالم العربي من التقاط هذه اليد الممدودة"..

أما مندوب الفاتيكان بالأراضي المقدسة، الأب بييرباتستا بيتزابللا، فقال: "نحن حيال تغيير إستراتيجي للأمريكان، وهو تغيير سيتم الترحيب به في العالم العربي. إن خطاب الرئيس الأمريكي شديد الاتزان، بتأكيده على ثبات الروابط مع إسرائيل وفي نفس الوقت تبني موقفاً جديداً مع العالم العربي، وهو ما سوف يوجه إنطلاقة جديدة للبحث عن حل للمشكلة الرئيسية: الصراع الإسرائيلي الفلسطيني" ..

ولعل أهم من أدرك الوضع وعبر عنه بوضوح هو الأب جيمس ماسّا، المسؤول عن الحوار بين الأديان في أسقفية الولايات المتحدة؛ فقد أشار إلى "التوافق الشديد الوضوح" بين خطاب أوباما ورسالة بنديكت 16 التي تضمنتها خطبه إلى المسلمين أثناء رحلته إلى الأردن وإسرائيل الشهر الماضى قائلا: " إن التوافق الشديد الوضوح بين الاثنين يكشف عن منظور جغرافى-سياسى مغري: أشبه ما يكون بموقف يوحنا بولس الثانى ورونالد ريجان عندما تكاتفا ووحّدا قواهما منذ ربع قرن مضى ليهزما الشيوعية؛ فالبابا والرئيس يمكنهما أن يتكاتفا لبناء تقارباً تاريخياً بين الإسلام والغرب" ..

ومعنى هذا "التقارب التاريخي" لم يعد بحاجة إلى أي توضيح؛ فما يدور حاليا هو محاولة مستميتة اعتمادا على التواطؤات الداخلية في المجالات السياسية والدينية لتنفيذ أحد قرارات مجمع الفاتيكان الثاني لاقتلاع الإسلام بأيدي بعض المسلمين.

أما الأب الجزويتي الأسترالي دانيال ماديجان، المخضرم في الحوار الكاثوليكي الإسلامي، فقال: "إن هناك إشارات مبشرة بالخير من جانب حفنة من القيادات الإسلامية والثقافية، المستعدون للقاء البابا والرئيس في منتصف الطريق"، مشيرا إلى وثيقة "كلمة سواء" التي قام الأمير غازي بن طلال بتولي حملة صياغتها بكل ما بها من تنازلات دينية، اعتبرها الفاتيكان نتيجة إيجابية لهجوم البابا على الإسلام في محاضرة راتسبون التي لم يعتذر عنها، ثم أعقب هذه الوثيقة الفضيحة قمة دينية في مدريد برئاسة منظمة العالم الإسلامي، وأخرى في هيئة الأمم..

ويعيد الأب ماسّا تأكيد وجهة نظره قائلا: "آخر مرة تحالف فيها أحد البابوات وأحد الرؤساء في واحدة من أهم وأضخم التغيرات التي تمت في العالم، كان ريجان ويوحنا بولس الثاني في مواجهة الشيوعية. وهذا التحالف قد أظهر فاعليته .. فاعليته القصوى"!!، وهذه "الفاعلية القصوى" التي يتغنى بها الأب ماسّا تشير إلى اقتلاع الشيوعية فعلا كنظام بديل للرأسمالية، مثلما يحاولون اقتلاع الإسلام، كدين مصوّب لما تم في المسيحية من تحريف ومصوّب لرسالة التوحيد التي حرفها اليهود والنصارى وحادوا عنها..

فهل كل هذه الحقائق بحاجة إلى مزيد من التوضيح من أننا حيال مأساة كاسحة بكل المقاييس؟.. مأساة لن يوقفها إلا أن نكف عن التواطؤ وعن التنازلات وعن خيانة الدين والوطن .. لذلك لا يسعني إلا تقديم هذه الحقائق، التي لم تعد خافية، إلى كافة أصحاب القرار في العالم الإسلامي والعربي علّها تعاونهم على تصويب المصار.. بدلا من زج شعوبها إلى هاوية بلا قاع!!.


بقلم دكتورة زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية








المصدر: منقول