أعمال القلوب - [04] الخوف - وجوب الخوف من الله
في هذا الموضوع نعرف أدلة وجوب الخوف من الله، ومتى ينفع؟ وماهي درجات الخوف؟ ومواضع ذكر الخوف من الله في القرآن، وكذلك الفرق بين الخشية والخوف.
من مادة (خ و ف) التي تدل على الذعر والفزع في اللغة العربية، خفت الشيء خوفًا وخيفة، وخوّف الرجل: جعل الناس يخافونه {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران من الآية: 175] أي يجعلكم تخافون أولياءه أي يخوّفكم بأوليائه.
والخوف توقع مكروه لعلامة مظنونة أو معلومة، وهو ضد الأمن، ويستعمل في الأمور الدنيوية أو الآخروية؛ فهو توقع حلول مكروه أو فوات محبوب،اضطراب القلب وحركته أو فزعه من مكروه يناله أو محبوب يفوته.
قال ابن قدامة:"اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال .مثال ذلك: من جنى على ملك جناية ثم وقع في يده فهو يخاف القتل ويجوّز العفو" احتمالات. ولكن يكون تألم قلبه بحسب قوة علمه بالأسباب المفضية إلى قتله وتفاحش جنايته وتأثيرها عند الملك، وبحسب ضعف الأسباب يضعف الخوف، وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية بل عن صفة الذي يُخاف عظمة وجلالاً؛ فإنه إذا علم أن الله سبحانه وتعالى لو أهلك العالمين لم يبالي ولم يمنعه مانع فبحسب معرفة الإنسان بعيوب نفسه وبجلال الله، وأنه لا يسأل عما يفعل يكون الخوف على حسب هذا: فهو مطالعة القلوب لسطوات الله عزوجل ونقمه فيولد في القلب الخوف"خوف الوعيد".
والخشية أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [ فاطر من الآية:28] خوفاً مقروناً بمعرفة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « » صحيح بن حبان [3538]، فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء والعارفين، وعلى حسب قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية.
فصاحب الخوف يلجأ إلى الهرب، وصاحب الخشية يلجأ إلى الاعتصام بالعلم، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الخشية خوف مبني على العلم بعظمة من يخشى وكمال سلطانه". فإذا خفت من شخص لا تدري هل يقدر عليك أم لا فهذا خوف وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية. قال ابن القيم رحمه الله: "في مثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلجأ إلى الحمية والهرب لقلة معرفته والآخر يلتجئ إلى الأدوية" فالخشية خوف مبني على علم.
- وقد ورد الخوف في القرآن على وجوه منها:
1- القتل والهزيمة: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء من الآية:83]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ} [البقرة من الآية:155].
2- الحرب والقتال: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب من الآية:19]، وإذا انجلت الحرب {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب من الآية:19].
3- العلم والدراية : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} [ البقرة من الآية:182]أي علم، {إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّـهِ} [البقرة من الآية:229] أي يعلما، {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ} [ النساء من الآية:3] أي علمتم.
4- النّقْص: { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ} [النحل من الآية: 47].
5- الرعب والخشية من العذاب والعقوبة: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} [السجدة من الآية: 16].
قال ابن قدامة: "اعلم بأن الخوف سوط الله يسوق الله به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل؛ لينالوا بهما رتبة القرب من الله عزوجل، والخوف سراج القلوب به يبصر ما فيه من الخير والشر".
وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عزوجل فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه فأين المفر؟!، وما فارق الخوف قلبًا إلا خربه فإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات فيها، وطرد الدنيا عنها. فكم أطلق الخوف من سجين في لذته كانت قد استحكمت عليه سكرته، وكم فك من أسير للهوى ضاعت فيه همته وكم أيقظ من غافل التحف بلحاف شهوته، وكم عاق لوالديه رده الخوف عن معصيته، وكم من فاجر في لهوه قد أيقظه الخوف من رقدته، وكم من عابدٍ لله قد بكى من خشيته وكم من منيب إلى الله قطع الخوف مهجته وكم من مسافر إلى الله رافقه الخوف في رحلته وكم من محبٍّ لله ارتوت الأرض من دمعته، فلله ما أعظم الخوف لمن عرف عظيم منزلته.
والخوف ليس مقصودًا لذاته، ليس المقصود أن نخاف لأجل أن نخاف بل نخاف ليكون الخوف وسيلة تصلح أحوالنا.لو كان الخوف مقصوداً لذاته لما ذهب عن أهل الجنة!، لكن لما كان دخول أهل الجنة الجنّة مهياً القضية وما هو مطلوب منهم وليس فيها عمل ولا اجتهاد في العبادات ومقاومة للهوى والشهوات كان الخوف من أهلها ذاهب {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة من الآية: 62].
ومن خاف اليوم أمِنَ غداً*** ومن أمِن اليوم خاف غداً.
والخوف يتعلق بالأفعال، والمحبة تتعلق بالذات والصفات، ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ولا يلحقهم فيها خوف. قال ابن رجب: "والله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ونصب الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه؛ ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال".
لذلك كرر الله سبحانه وتعالى ذكر النار وما أعده الله فيها لأعدائه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيه من العظائم والأهوال ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه وامتثال والمسارعة إلى ما يأمر به ويحبه ويرضاه واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، فمن تأمل الكتاب الكريم وأدار فكره فيه وجد ذلك العجب العجاب وكذلك السنة الصحيحة المفسّرة للقرآن وكذلك سير السلف الصالح أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من تأملها علم أحوال القوم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات وأن ذلك هو الذي رقاهم إلى تلك الأحوال الشريفة والمقامات الساميات من شدة الاجتهاد في الطاعة والكف عن المحرمات ودقائق الأعمال المكروهات فضلاً عن المحرمات.
- الخوف منازل ودرجات:
القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فإن زاد على ذلك، بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والكف عن دقائق الكروهات (يعني فعل المستحبات وترك المكروه والشبهة)، كان ذلك خوفاً محموداً فإن تزايد الخوف بحيث أدّى إلى مرض أو موت أو همٍّ لازم أو قعود عن العمل بحيث يقطع السعي عن اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة إلى الله عز وجل لم يكن خوفًا محمودًا.
بعض الناس من شدة خوفهم من العذاب والنار يصابون باليأس والاحباط والقعود عن العمل ويقولون لا فائدة!، ليس هذا هو المطلوب، وهذه الزيادة مذمومة؛ الخوف المطلوب: الذي يحمل على فعل المستحبات وفعل الواجبات قبلها وعلى ترك الشبهات والمكروهات وترك المحرمات قبلها وهناك خوف ضعيف أقل من هذا ، لا يؤدي إلى ترك المحرمات كلها أو فعل الواجبات كلها فهو خوف ناقص. ذكر البخاري في قوله : (باب الخوف من الله عز وجل ).
قال ابن حجر: هو من المقامات العليّة وهو من لوازم الإيمان، قال الله تعالى: {وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ آل عمران من الآية:175] {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [ البقرة من الآية:150]، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر من الآية:28]، وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه وقد وصف الله الملائكة بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [ النحل من الآية:50]، والأنبياء بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ} [ الأحزاب من الآية:39]، وإنما كان خوف المقربين أشد لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة.
فالعبد إن كان مستقيماً فمن أي شيء يخاف؟!، فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [ الأنفال من الآية:24] ، وكذلك يخاف من نقصان الدرجة، وإن كان مائلاً منحرفاً وعاصياً فخوفه من سوء فعله و ينفعه ذلك مع الندم والإقلاع.
- متى ينفع الخوف؟
ينفع مع الندم والإقلاع، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد أو أن يحرم التوبة أو لا يكون ممن شاء الله أن لا يغفر له.
- ماحكم الخوف من الله؟
الخوف من الله واجب، وهو من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد كم قال ابن القيم، إذاً يجب الخوف من الله ومن لا يخف فهو آثم.
قال ابن الوزير: "أنا الأمان فلا سبيل إليه ، وهو شعار الصالحين"
- أدلة وجوب الخوف
1- {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران من الآية: 175]، قال ابن سعدي رحمه الله: "وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده وأنه من لوازم الإيمان فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفهم من الله".
2- {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [ البقرة من الآية:40]، والأمر يقتضي الوجوب.
3- {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [ المائدة من الآية:44]، قال ابن سعدي: "أمر الله بخشية الله التي هي رأس كل خير فمن لم يخشَ الله لم ينكفّ عن معصته ولم يمتثل أمره"..
4- إن الله امتدح أهل الخوف، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } [المؤمنون:57] {أُولَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]. عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : « » ( صحيح الترمذي [3175]). {أُولَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} قال الحسن: "عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم". إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً!
5- والتخويف من عذاب الله أحد مهمات الرسل {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام من الآية:48] والإنذار هو الإعلام بالشيء الذي يخيف، فالإنذار في لغة العرب كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: "الإنذار إخبار فيه تخويف، كما أن التبشير إخبار فيه سرور".وقد وصف الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه نذير في مواضع كثيرة.
- جمع قومه على الصفا وقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد (أنا النذير العريان)، وقد كان العرب إذا رأى أحدهم جيشاً يغير على قبيلته قد اقترب وهو في الخارج ولا تدري قبيلته جاء يركض ويخلع ثيابه وهو يصرخ حتى يبين لهم هول المصيبة التي ستنزل بهم وفداحة الخطر ، وهذه أشد أنواع النذارات عند العرب.
- {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر:89 ]
- {فَفِرُّوا إِلَى اللَّـهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات:50]
- كان من أوائل أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإنذار {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر. قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1-2]، خوف الناس عذاب الله جهنم ، بأس الله وانتقامه، قال القرطبي: "خوف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا".
وقد وصف الله العذاب في كتابه في عدة مواضع لتحقيق الخوف في نفوس عباده ليتقوه ،
كما قال تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّـهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16]. قال ابن كثير: ( يخوف الله عباده) إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوّف به عباده. قال : لينزجروا عن المحارم والمآثم.(يا عبادِ فاتقون) أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي.
وبين سبحانه أن مايرسله من الآيات لتصديق الأنبياء عليهم السلام كناقة صالح إنما يرسله من أجل التخويف {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [ الإسراء من الآية:59].
كذلك الآيات الكونية كالخسوف والكسوف وغيرها. وكذلك قال الله في البرق والرعد: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12].
خالد أبو شادي
طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة
- التصنيف:
- المصدر: