جناية وأد الطموح

منذ 2015-12-01

لم يعرف التاريخ دينًا بث الأمل في نفوس أتباعه، و ألقى بذور التفاؤل في قلوب أصحابه حتى أثمرت إنجازات كانت مجرد أحلام أو خيالات قبل الإسلام، مثل دين الله الخاتم الذي حرم اليأس والقنوط، وكره الخمول والقعود، وذم تثبيط الهمم و وأد الطموح ودفن الآمال.

لا تقتلوا طموحنا

لم يعرف التاريخ دينًا بث الأمل في نفوس أتباعه، و ألقى بذور التفاؤل في قلوب أصحابه حتى أثمرت إنجازات كانت مجرد أحلام أو خيالات قبل الإسلام، مثل دين الله الخاتم الذي حرم اليأس والقنوط، وكره الخمول والقعود، وذم تثبيط الهمم و وأد الطموح ودفن الآمال.

ومع هذا التميز الإسلامي في بث الروح في طموحات أتباعه ليصار إلى تحويلها إلى واقع وحقيقة. يتفاجأ المسلم اليوم من هول المخالفة الصريحة لهذا النهج الإسلامي من بعض المعلمين والمصلحين والمربين، الذي وصل بهم الأمر في مخالفة هدي الإسلام إلى حد تثبيط همم بعض المتحمسين من أتباعه، و القضاء على طموحاتهم المتواضعة وآمالهم المشروعة، بل و إلى هدم مستقبل دنيا البعض الآخر لمجرد عثرة أو هفوة مؤقتة عابرة.

وقبل أن أعرض لبعض نماذج وأد الطموح في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لا بد من التأكيد على أن ما نعنيه بوأد الطموح؛ هو ذلك الطموح المشروع المتوافق مع شرع الله تعالى أولًا، والمترافق مع التخطيط الجيد والدراسة المتأنية، والمتزامن مع العمل الدؤوب والجهد المتواصل لتحقيق مفرداته خطوة بخطوة، والبعيد كل البعد عن الأماني والأحلام التي لا تمت إلى الطموح والإنجاز بصلة.

ولا يمكن اعتبار أماني بعض شباب الأمة اليوم، المنفصلة تمامًا عن التخطيط والعمل، والخالية من بذل الجهد واحتمال المشاق وتجاوز العقبات وقبول بعض الإخفاقات، لا يمكن اعتبارها طموحات لكونها لا تعدو أن تكون أحلامًا في الهواء. والحقيقة أن الأمثلة على جناية وأد الطموح كثيرة سأكتفي منها بمثالين اثنين فقط:

الأول: يتعلق بممارسات بعض المعلمين والمدرسين في بعض مدارسنا العربية والإسلامية، حيث تسمع من بعضهم من يقول لأحد تلامذته والأخير يعرض عليه طموحه وما يرجو أن يكون في المستقبل: هذا مُحال فأمثالك لا يمكن أن يحقق هذه الطموحات !!...... إلخ من أمثال هذه العبارات القاتلة لمستقبل المتعلم العلمي والمعرفي، وما ذاك إلا لمجرد عدم تفوق هذا التلميذ في المادة التي يدرسها هذا المدرس، الذي قد يكون أسلوبه وطريقته السبب الأهم في كره الطالب لهذه المادة أو عدم استيعابها والتفوق بها.

والحقيقة أني عاينت قصة فريدة من مئات – وربما آلاف – القصص المشابهة من هذا النوع من وأد الطموح وإخماد الأمل في نفوس الجيل الجديد من هذه الأمة، يذكر صاحبها سبب تركه للدراسة وهو في الثاني الثانوي حيث يقول: "شعرت أني لا يمكن أن أفلح في الدراسة بعد أن عنفني مدرس إحدى المواد بكلمات قليلة كانت كفيلة بزجي في بحور اليأس من مواصلة التعلم والدراسة - ليس ضمن نطاق المدارس الحكومية فحسب - بل في المجال العلمي المعرفي بشكل عام" رغم أن صاحب القصة كان متميزًا في معظم المواد، وكان من الممكن أن يكون على خلاف ما هو عليه الآن معرفيًا وعلميًا وثقافيًا.

الثاني: و الذي يعتبر الأخطر في وأد الطموح وتثبيط الهمم: ما يجنيه الوالدان على أبنائهم وبناتهم، فبدلًا من أن يكون الوالدان مصدرًا لبث الأمل في نفوس أولادهم، و موئلًا للتشجيع والثقة بالنفس في تحقيق الآمال والطموحات كلما تسلل اليأس أو الإحباط إلى نفوس الأبناء والبنات. تتعجب من ممارسات وتصرفات بعض الآباء والأمهات التي تعتبر مقبرة لطموحات أبنائهم بكل معنى الكلمة.

إن كلمات من أحد الوالدين لفلذة كبده من أمثال: هل جننت أنت لن تنجز ما تصبو إليه!! أو أنت تحلم لا يمكن أن يتحقق ما تطمح إليه أبدًا!! أو ..أو ...، لمجرد أن طموح الولد أو البنت تعدى حدود نطاق آمال الوالد ومنتهى ما يصبو إليه في أولاده، أو لغير ذلك من الأسباب.

ولا أدري من أين جاء بعض المسلمين اليوم بجناية وأد طموح أبنائهم وبني جلدتهم، وإخماد جذوة الأمل بمستقبل مشرق في نفوسهم، وتثبيط هممهم عن تخطي الواقع المؤلم الذي يعيشونه إلى غد أفضل وأحسن. والسيرة النبوية الشريفة التي هي بمثابة التجسيد الحقيقي لدين الله في الأرض، والنموذج العملي لما يريده الله تعالى من عباده؛ تشير إلى عكس ما يفعله بعض المسلمين اليوم تمامًا.

إن من يستقرأ سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لن يجد أي عناء في إدراك حقيقة زرعه صلى الله عليه وسلم الأمل في نفوس أصحابه في جميع مراحل الدعوة الإسلامية عمومًا، بل وفي أحلك الظروف وأشد المحن التي من شأنها أن تزج بالجميع في أتون اليأس والقنوط وفقدان الأمل، كوعده لسراقة بن مالك بسوراي كسرى في رحلة الهجرة وهو مطلوب ومطارد ولم يصل إلى المدينة بعد، أو كتبشيره لأصحابه بفتح بلاد فارس والروم أثناء حفر الخندق، والصحابة محاصرون بالأحزاب وقد بلغت القلوب الحناجر من شدة الخوف كما وصف القرآن الكريم

بل كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يستأصل اليأس والقنوط من نفوس من تسلل إليه شيء من هذه الآفة الخطيرة والمرض الخبيث، ناهيك عن رفع المعنويات ودعم الطموحات الذي كان منهجًا نبويًا واضحًا مع أصحابه.

ولا يمكن حصر الوقائع والأمثلة التي تؤكد ذلك المنهج وتلك السياسة النبوية، التي لا تكتفي بتشجيع المسلمين على تحقيق ما يطمحون إليه، وتحويل ما يأملون به إلى واقع ملموس ومحسوس، بل وتزرع الطموح في نفوسهم زرعًا، وتكتشف مهاراتهم و ميولهم وما يتقنون، ليصار إلى توجيههم نحو الإبداع والتألق، كلّ في نطاق المجال الذي يمكن أن يبدع فيه ويتميز.

ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوزع الأوسمة على أصحابه بما يدفعهم نحو المزيد من العمل والجهد للتميز والإبداع فيما يحبون، فقد أطلق الرسول الكريم لقب: سيف الله المسلول على خالد بن الوليد، ليتحول هذا الصحابي الجليل منذ ذلك الوقت وحتى عصرنا الحاضر إلى أيقونة في المجال العسكري، حتى إن طرائقه في القتال، وخططه الحربية ما زالت تُدْرس وتُدّرس في أرقى المؤسسات العسكرية العالمية المعاصرة.

وحفز النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله بن عباس على الاستزادة من العلم بالكتاب والسنة فأطلق عليه لقب: حبر هذه الأمة، ليحول هذا اللقب النبوي ابن عمه إلى أكثر الصحابة علمًا بتأويل وتفسير القرآن الكريم، بل وليأهله للجلوس ومخالطة كبار الصحابة وأهل بدر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون غيره من أقرانه.

فقد جاء في صحيح البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ - فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ - قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] فَقَالَ بَعْضُهُمْ  أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ. قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] فَقَالَ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ" (صحيح البخاري [4970]).

بعد كل هذا التحفيز والتشجيع والدعم النبوي المادي والمعنوي لطموحات أصحابه. من حق المسلم الغيور على مستقبل أبناء هذه الأمة أن يتسائل: من أين جاء بعض المعلمين والمربين المسلمين اليوم بمثل هذا الكم من التثبيط و وأد الطموح الذي يلحظه المراقب بجلاء ودون عناء؟! 

 

عامر الهوشان