أعمال القلوب - [08] الشكر 1-3
الشكر خير عيش السعداء، لم يترقوا إلى أعلى المنازل إلا بشكرهم، ولمّا كان الإيمان نصفين، نصفٌ شكر ونصفٌ صبر، كان حقيقًا على من نصح نفسه وآثر نجاتها وسعادتها.
الشكر خير عيش السعداء، لم يترقوا إلى أعلى المنازل إلا بشكرهم، ولمّا كان الإيمان نصفين، نصفٌ شكر ونصفٌ صبر، كان حقيقًا على من نصح نفسه وآثر نجاتها وسعادتها.
تعريف الشكر
الشكر لغةً: الاعتراف بالإحسان، شكرت الله- شكرت لله- شكرت نعمة الله. فالشكر في اللغة هو ظهور أثر الغذاء في جسم الحيوان، والشكور من الدواب ما يكفيه العلف القليل أو الذي يسمن على العلف القليل. والشكر خلاف الكفر.والشكر: الثناء على المحسن بما أولاه من معروف، والشكران خلاف الكفران. اشتكرت السماء أي اشتد وقع مطرها. واشتكر الضرع أي امتلأ لبنًا. والشكر الزيادة والنماء.
والشكر في الاصطلاح: ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيمانًا، وفي لسانه حمدًا وثناءً، وفي جوارحه عبادة وطاعة، ويكون القليل من النعمة مستوحيًا الكثير من الشكر فكيف إذا كانت النعم كثيرة؟، ومن العباد من هو شاكر ومنهم من هو كافر.
شكرت له، يتعدى باللام، وكفرت به؛ يتعدى بالباء!، ولابن القيم نكتة طرفة في هذا فيقول: "المشكور في الحقيقة هي النعمة وهي مضافة إلى المنعم لذلك تقول شكرت له فيتعدى باللام، أما الكفر ففيه تكذيب وجحد بالنعمة لذلك قالوا كفر بالله وكفر بنعمته وكفر بآلائه فلذلك تعدى بالباء".
هذا الشكر له مقامات عظيمة في الدين:
1- قرن الله ذكره بشكره وكلاهما المراد بالخلق، والأمر والصبر خادم لهما ووسيلة إليهما وعونًا عليهما، فقد قرن الله الشكر بالذكر فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
2- قرن الشكر بالإيمان، وأنه لا غرض له في عذاب الخلق إذا قالوا آمنا {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147]، أي وفيتم حقه وما خلقتم من أجله وهو الشكر بالإيمان.
3- أهل الشكر هم المخصوصين بمنته عليهم من بين عباده فقال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53].
4- قسم الناس إلى شكور وكفور فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهل الكفر وأحب الأشياء إليه الشكر وأهل الشكر {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]
5- يبتلي عباده ليستخرج الشكور فقال تعالى على لسان سليمان عليه السلام: {هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]
6- وعد الشاكرين بالزيادة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} {إبراهيم:7].
7- الله يرضى عمل الشاكرين ويرضى الشكر {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]. فيقارن الله بين الشكر والكفر وأنهما ضدّان {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. والشاكرون في هذه الآيات الذين ثبتوا على نعمة الإيمان ولم ينقلبوا على أعقابهم. فمن الناس من لا يصمد عند الابتلاء والمحنة فيكفر ولا يثبت، ومنهم من يظهر لربه حقيقة ما في قلبه عند المحنة والابتلاء، فيتعالى لسانه بذكر ربه وحمده فيثبت ويشكر شكرًا عمليًا بالقلب واللسان والجوارح.
8- علّق الله المزيد بالشكر والمزيد من لا نهاية له، كما أن الشكر لا نهاية له، ووقف الله الكثير من الجزاء على المشيئة: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ} [التوبة:28]، في الإجابة {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ} [الأنعام:41]، في المغفرة {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة:284]، في الرزق {يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ} [البقرة:212]، في التوبة {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ} [التوبة:15]، أما الشكر فإنه أطلقه {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145].
9- أخبر سبحانه وتعالى أن إبليس من مقاصده أن يمنع العباد من الشكر، فتعهد إبليس بأشياء {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فإبليس يريد حرمانهم من الشكر والقعود بينهم وبينه.
10- وصف الله الشاكرين بأنهم قليل من عباده {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقول: "اللهم اجعلني من الأقلين" فقال: ما هذا؟ قال: "يا أمير المؤمنين: الله تعالى يقول {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، ويقول {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، ويقول {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواالصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص:24]، قال عمر: صدقت! وإذا كان الشكر من صفات الأنبياء والمؤمنين فإنه ليس كذلك عند كل الناس فإن كثيرًا منهم يتمتعون بالنعم ولا يشكرونها.
11- أثنى الله على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر وهو نوح عليه السلام {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3] إشارة إلى الاقتداء به.
12- أخبر الله أنه يعبده من شكره وأن من لم يشكره فإنه ليس من أهل عبادته: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
13- أمر سبحانه وتعالى عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليف بالشكر {مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].
14- أول وصية أوصى بها الإنسان بعدما عقل أن يشكر له ثم لوالديه {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
15- أخبر الله أن رضاه في شكره {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7].
16- أخبر عن خليله إبراهيم بشكر نعمته {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل:120-121]. فمن صفات الأمة القدوة الذي يؤتم به بالخير يعدل مثاقيل من أهل الأرض أنه كان قانتًا لله شاكرًا لأنعمه فجعل الشكر غاية خليله.
17- الشكر هو الغاية من الخلق {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. فهذه غاية الخلق، أما غاية الأمر {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]، فكما قضى الله لهم بالنصر فليشكروا هذه النعمة.
والخلاصة أن الشكر غاية الخلق، وغاية الأمر فخلق ليشكر وأمر ليشكر {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، والشكر مراد لنفسه والصبر مراد لغيره، أنت تصبر لأجل أن يحدث ما يترتب عليه وما يؤدي إليه من الأشياء، والشكر غاية في نفسه والصبر وسيلة إلى غيره وإلى ما يحمد وليس مقصودًا لنفسه.
وفي منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ذكر ابن القيم في الشكر أيضًا سبعة عشر وجهًا وهي:
1- أنه من أعلى المنازل.
2- فوق منزلة الرضا والزيادة، فالرضا مندرج في الشكر ويستحيل وجود الشكر بدونه.
3- نصف الإيمان شكر ونصفه صبر.
4- أمر الله به ونهى عن ضده.
5- أثنى على أهله ووصفهم بخواص خلقه.
6- جعله غاية خلقه وأمره.
7- وعد أهله بأحسن الجزاء.
8- جعله سببًا للمزيد من فضله.
9- حارسًا وحافظًا للنعمة.
10- أهل الشكر هم المنتفعون بآياته.
11- اشتق لهم اسمًا من أسمائه (الشكور) وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكورًا.
12- غاية الرب من عبده.
13- سمى نفسه شاكرًا وشكورًا، وسمى الشاكرين بهذا الاسم فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلًا.
14- أخبر الله عن قلة الشاكرين في عباده.
15- الشكر لابد معه من مزيد.
الشكر عكوف القلب على محبة المنعم، والجوارح على طاعته وجريان اللسان بذكره والثناء عليه.
والشكر يتعلق بأمور ثلاث: القلب واللسان والجوارح، ومعنى الشكر ينطوي على معرفة ثلاثة أمور وهي معاني الشكر الثلاثة:
1- معرفة النعمة: استحضارها في الذهن وتمييزها والتيقن منها، فإذا عرف النعمة توصل إلى معرفتها بمعرفة المنعم بها ولو على وجه التفصيل، وهذا ما نجده في القرآن الكريم ليستحضر العبد هذه النعم فيشكر. وإذا عرف النعمة سيبحث العقل عن المنعم فإذا عرف المنعم أحبّه فإذا أحبه جد في طلبه وشكره ومن هنا تحصل العبادة لأنها طريق شكر المنعم وهو الله.
2- قبول النعمة: تلقيها بإظهار الفقر إلى المنعم والحاجة إليه وأن وصول النعم تمّ بغير استحقاق، فالله أعطانا النعم منّة وتفضّل.
3- الثناء بها: الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان:
عام: وهو أن تصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك.
خاص: أن تتحدث بنعمه عليك وتخبر بوصولها إليك {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]،والتحديث المأمور به هنا فيه قولان:
1- أن تذكر وتعدد ( أنعم الله علي بكذا وكذا...) ولذلك قال بعض المفسرين اشكر ما ذكره من النعم عليك في هذه السورة من جبرك يتيمًا وهدايتك بعد الضلال وإغنائك بعد العيلة.
2- أن تستعملها في طاعته.
فالتحدث بالنعمة من الثناء على الله، فتثني على الله بالأسماء المناسبة لمقام الشكر(المنان - الكريم - ذو الفضل العظيم – الله واسع – عطاؤه كثير).
حديث جابر مرفوعًا: «
» [شرح السنة:6/551]ومن الثناء كقول جزاك الله خيرًا، و الدعاء أيضًا وسيلة للشكر.
خالد أبو شادي
طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة
- التصنيف:
- المصدر: