رحلات الإمام الطبري
لما حصَّل الإمام الطبري مبادئَ العلوم في بلده، وسمع من شيوخها، همّت نفسه بالاستزادة والرحلة لملاقاة الشيوخ والسماع منهم، فقد كانت الرحلة في طلب العلم ولُقْيَا العلماء، والسماع والرواية عن الأكابر ميزةَ علماء ذلك العهد، فلا تجد عالمـًا بقي في بلده مكتفيًا بما سمعه من علمائها في الغالب الأعم
لما حصَّل الإمام الطبري مبادئَ العلوم في بلده، وسمع من شيوخها، همّت نفسه بالاستزادة والرحلة لملاقاة الشيوخ والسماع منهم، فقد كانت الرحلة في طلب العلم ولُقْيَا العلماء، والسماع والرواية عن الأكابر ميزةَ علماء ذلك العهد، فلا تجد عالمـًا بقي في بلده مكتفيًا بما سمعه من علمائها في الغالب الأعم، خصوصًا والعصر لم يزل عصرَ رواية وسماع وتحديث، كما أن الأخذ عن العلماء - غير مروياتهم - سببٌ مهم يسعى إليه طلاب العلم في ذلك الوقت من فقههم وأدبهم وسمتهم وعبادتهم.
وإمامُنا ابن جرير ممن سار على هذه الجادَّة، فرحل إلى بلاد الرَّي، ثم يـمَّمَ وجهه شطر العراق لبغداد ممنِّيًا نفسَه لقيا الإمام أحمد بن حنبل، ولكنه قبل وصوله إليها بقليل بلغَه نبأُ وفاته، فواصل عزمه في الرحلة ولقيا بقيَّة حفاظ العلماء في بغداد والبصرة والكوفة، فأدرك فيها محمدَ بن بشار المعروف ببُنْدار، وإسماعيل بن محمد السدي، وهنَّاد بن السري، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، وأحمد بن منيع، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن العلاء الهمدَاني أبا كريب، وفي الفقه الحسن بن محمد بن الزعفراني.
ثم يـمَّمَ نحو الشام فلقي في بيروت الإمامَ المقرئَ العبَّاس بن الوليد البيروتي، فأخذ عنه القراءة برواية الشاميين.
ثم توجه إلى مصر في سنة 253هـ، ودخل الفسطاط ثم رجع إلى الشام مرة أخرى، عاد بعدها إلى مصر سنة 256، فدخل القاهرة، وأخذ الفقه الشافعي عن الربيع بن سليمان المرادي، وإسماعيل بن إبراهيم المزني، ولقي فيها محمد بن عبدالحكم المؤرخ المشهور، وأخذ عن أصحاب عبدالله بن وهب القرشي الفهري تلميذِ مالكِ بن أنس إمام دار الهجرة، ولقي يونسَ بنَ عبد الأعلى الصدفي، وابن سراج الأديب، ولقي بها جماعة غيرهم.
ثم رجع بعدها إلى بغداد، ثم بلاده طبرستان؛ ليعود بعد زيارته الأولى لبلده إلى بغدادَ مرةً أخرى، ثم رجع إلى بلده للمرة الثانية.
حتى رجع إلى بغداد، فاستقر بها من سنة 290هـ - وعمره ست وستون سنة - إلى أن توفاه ربه في سنة 310 هـ.
وكان هروبه من بلده في المرة الأخيرة بسبب تأليفه: فضائل الشيخين، وسيأتي في مؤلفاته.
هذا، ولم أر في رحلاته سفرَه إلى الحرمين الشريفين لطلب العلم، ولكنه سافر للحج، ثم رجع ولم يمكُثْ فيهما للتحصيل،. كما ذكره في شرح حديث "الهميان" وسيأتي في مؤلفاته برقم 18.
وعليه، فكانت رحلته - رحمه الله - مركَّزة بين قرى الري والعراق ومصر، وبها اجتمع بأكابر العلماء والحفَّاظ فأسند عنهم، وأخذ من علومهم ما تأهَّل به لمكانته التي وصل إليها.
وبالمناسبة أُشيدُ بأهمية الرحلة لله بسبب طلب العلم، هذه السُّنة التي لا بد أن يذيعها وينشرَها أهل العلم وطلابه؛ ففيها همَّة وتجرد للعلم، واجتماع بأكابر أهله، ولو لم يكن فيها إلا إتعاب النفس بسبب ذلك، ونيل أجره من الله تعالى، لكفى حافزًا؛ فإنه جهاد وصبر على طاعة الله.
ومن العجائب في رحلة ابن جرير ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده، عن أبي العباس البكري قال: جمَعت الرحلةُ بين ابن جرير وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا ولم يبق عندَهم ما يقوتهم، وأضرَّ بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيُهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه سأل لأصحابه الطعام - أي: شحذ واستعطى - فخرجت القرعة على ابن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي ركعتين صلاةَ الخيرة - أي: الاستخارة - قال: فاندفع في الصلاة، فإذا هم بالشموع، وخصي من قبل الوالي يدق الباب، ففتحوا. فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل له: هو ذا، فأخرج صُرَّةً فيها خمسون دينارًا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فأعطاه خمسين دينارًا، وكذلك الروياني وابن خزيمة. ثم قال: إن الأمير كان قائلاً - نائمًا في القائلة، وهي نصف النهار - بالأمس، فرأى في المنام أن المحامد جِياعٌ قد طووا كشحهم، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفدت فابعثوا إليَّ أحدَكم.
وهؤلاء كلهم اسمهم محمد، وهم أئمة زمانهم، فهذا ابن جرير صاحبنا، وأبو بكر محمد بن خزيمة صاحب (الصحيح) و(التوحيد)، ومحمد بن نصر صاحب (تعظيم قدر الصلاة) و(المسند) وغيرهما، ومحمد بن هارون الروياني صاحب (المسند) العالي سندًا ورتبة.
وفي الجملة: فإنه من المشهور على مر التاريخ أن أهل العلم فقراء مساكين، ومتقللون من الدنيا.
علي بن عبد العزيز الشبل
أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
- التصنيف:
- المصدر: