الربانيون لا يطلبون الجزاء
أتحدث عن تلك القلوب المؤمنة التقية، التي جعلت نفسها لله وقفًا، فعملت لله، وسعت لله، وعرفت لله، وخاصمت في الله،
كل الأثر في سبيل الله
أتحدث عن تلك القلوب المؤمنة التقية، التي جعلت نفسها لله وقفًا، فعملت لله، وسعت لله، وعرفت لله، وخاصمت في الله، وصالحت لله، ووالت في الله، وعادت في الله، وأحبت في الله، وأبغضت في الله، فصار عملها كله لله وفي الله، فهم لا يعاتبون ولا يطالبون.
لا يعاتبون مهما غفل الناس عنهم، وقصروا في حقوقهم، فهم لا يتعلقون إلا بربهم، ولا يرتجون إلا منه، ولا يأملون إلا فيه. كما أنهم لا يطالبون بجزاء من الناس مهما قدموا، ومهما أحسنوا، ومهما بذلوا، ومهما أعطوا، ومهما تحملوا، إذ إنهم لا ينتظرون الجزاء إلا من الله سبحانه، ويحسنون الظن فيه سبحانه، وينتظرون خير الفضل.
والحق أن المؤمن كلما كان قلبه متعلقًا برضا ربه سبحانه، استوى عنده مدح الناس وذمهم، وعطاؤهم ومنعهم، وشهرته بينهم وخفاؤه عنهم. فحسن لكل رباني أن يعرض عن معاتبة الخلق إذا رأى منهم عدم الاهتمام به، وحسن له أن يرضى بربه سبحانه وحده جزاء وحسبه منه وحده عطاء.
وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم كثيرًا، فالأنبياء يبذلون ويعطون من جهدهم وأوقاتهم وأنفسهم وأموالهم، لكنهم لم يسألوا الناس جزاء لذلك، بل كان قولهم {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين}.
وأورد القرآن الكريم مقولة الرباني الصالح مؤمن سورة ياسين: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20]. بل قد ذكر القرآن الكريم في صفة الأبرار أهل الجنة قولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان:9].
ولا يقولن أحد أن هذه التوجيهات إنما يستفاد بها في العبادات فقط، بل شتى أخلاق المؤمن ومعاملاته التي يبتغي بها وجه الله ينبغي عليه أن يجعلها لله سبحانه، وأن يتعفف فيها عن النظر إلى الناس.
بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك صريحًا في وصل الأرحام إذا هي انقطعت، وأنكر على الذين ينتظرون الوصل ليصلوا، أو الذين إنما هم يصلون كرد فعل وجزاء، فقال صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجه مسلم).
أستطيع إذن في نهاية كلامي أن أصيغ معادلة مفادها: كلما قوي مقام الله سبحانه في قلبك كلما كان عملك مخلصًا له، غير ملتفت لخلقه، فصغر في عينك الخوف والرجاء من الناس. والمؤمن الصالح إذا أقنع نفسه بذلك المعنى وربى قلبه عليه، صغر في عينه الجزاء من الناس، بل وصغر في عينه مقام الدنيا بأسرها، فهو يبذل جهده وماله، ونفسه، فيعلم الخير، ويحل المشكلات، ويصلح المجتمع، وينصح للخلق، ويضيء للناس سبيلهم، كل ذلك لا ينتظر منهم أي مقابل، ولا حتى كلمة شكر، كيف لا وإنما علاقته بربه، ونظره إليه.
وليطمئن أهل الإيمان، فإن الذين يعملون بنية صادقة لا يضيع أجرهم أبدًا بغض النظر عن نتائج عملهم فقد قال الله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30].
د. خالد رُوشه
- التصنيف:
- المصدر: