علّمتني الحياة: "ثِمار العُزلة"

منذ 2016-01-10

علّمتني الحياة أنّ للعزلة ثمار يقطفها الإنسان في صورة فوائد وخبرات تنفعه طيلة حياته، فهو بحاجة ماسّة لمحطة انتظار في كهف العزلة من حين لآخر، يتدبّر فيها ما سلف من أمره وما يرجوه فيما هو قادم.

 

العُزلة... تأديبٌ وتهذيبٌ وإصلاحٌ للنَّفس، جَلسة نحتاجها دوريًا، كل يوم إن استطعنا، تستعيد روحك التائهة في فوضى الحياة، وتستحضر في وجل أنّك ستموت وحدك وتُدفن وحدك وَتُبعث وحدك وَتُحاسب وحدك، لَن يُصاحبك إلّا عملك، وهو رفيقك في حياتك وعُزلتك، وهو وحده الوفي الذي لا يُفارقك حتى تَقف بين يدي رب العالمين، بصلاحه يَنصلِح حَالك وشأنك وبفساده يفسد كل شيء.

العُزلة تُعينك أن تزهد في البشر فهم على أي حالٍ مُنصَرِفون والحمدُ لله "الباقي" حينَ يَرحلُ الآخرون.
المِصباحُ المعلّق في السقفِ بقيدِهِ؛ والذي يُنيرُ أرجاءَ المكان الذي هو فيه؛ قَد تعتريه الحماسة إلى مُفارقة السطح لِيَنشُر ضوءِه في مكانٍ أكثر اتساعًا، فيصِل نفعه إلى ما استطاع من مخلوقات وموجودات.

وتِلك نيةٌ صالحة لا شك في ذلك، لكن خطوته الأولى لتحقيق هدفه من مُفارقة السطح؛ هي هي خطوته الأخيرة في مسيرته لأنه لا محالة.. مُتحطِّم!!

والإنسان منّا مَثَلُهُ كالمصباح، لا بُد أن يلتزم قيده الموصول بسقفِ حياته.. وقيد الإنسان "الصبر".
الكَثير لا يَفقه حقيقة الصبر ومعناه، فتضيق به النفس وتمتليء حُزنًا وضيقًا وهمًّا، رغم أنّ الصَبر في أصله هو سَكن للنفس بعيدًا عن انزعاجات مُفارقة الرضا وارتجاجات التَبَرُّم والتَشَكِّي. الصبر هو التَجلّي الرائع لِمعدن الإنسان النقيّ الشريف.

ومِن الأمور المُؤلمة الجارحة التي قد يَقترِفها الإنسان في حق نفسه؛ ويقتل بها روحه؛ أن يطلب تحققه في غيره، وكل واحدٍ منّا له قيمة ذاتية في أعماقه؛ لا ينبغي لها أن تتحقق في الآخرين.
لم نُخلَق لنبني حياتنا ((على)) إنسان؛ بل ((مع )) إنسان.

لا تَحصُر نفسك في قُيود وهمية؛ تُرسل لها رسائل سلبية مفادها أنّها لن تتحقق إلّا في أمرٍ مُعيّن دون غيره؛ رأيته أنت بنظرك القاصر، فصار الأمل والرجاء أن يتحقق ما تصبو إليه نفسك، ولا تجد الغاية في أي شيءٍ آخر حتى تضيّق عليك الدنيا بما رحبت ...

ثم لا يكون إلّا ما قدّره الله لك... تعبد الله على حرف؛ فترضى اذا تحقق رجاؤك وتَسخَط إذا انغلق عنك الباب الذي طرقته والهدفَ الذي نَشدته... رغم أن تحقق النفس قد يكون في أي مجالٍ آخر، وقد يكون لقمرك أفلاك أخرى غير التي عشت تدور فيها، فقط.. سر في قدر الله بنفسٍ هادئةٍ مُطمئنة. واعبد الله على مُراد الله.

لا تتوقف الحياة على عملٍ مُحدد أو غاية بذاتِها، ولا يوجد أي شخص أو شيء يمكن أن تنعدم بغيابه الحياة أو تنهدم بوجوده أركانها. عمود الحياة وأصلها هي ((العبادة))؛ الصلة بالله رب العالمين، وهي وحدها التي إذا انهدمت تنهدم الحياة، وتنعدم الغاية من الحياة بغيابها. ولذلك كان من الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ربنا ولاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا» (رواه الترمذي)؛ ويقول الحق جلّ في علاه عن الغاية من تلك الحياة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

العزلة تقطعك عن سوء ما عند الخلق وتصلك بخير ما عند الخالق، العُزلة تأديب لنفس ركنت للدعة والكسل والغفلة! عُزلة تُصلح الخلل وتُقوِّم الزلل وتدفع للعمل، كهف أمان للنفس تأوى إليه من حين لآخر ولا خروج إلّا لواجب، فلا علم ينفع إن لم يصحبه عمل.

شيماء علي جمال الدين

طالبة علوم شرعية على أيدي الشيوخ سواء على شبكة الإنترنت أو في محافظة الإسكندرية مهتمة بمجال دراسة علوم القرآن والتفسير بشكل خاص. لها العديد من المقالات والأبحاث والقصص القصيرة المنشورة على الشبكة الإلكترونية.