التوبة والوقاية

منذ 2016-01-11

من رحمة الله عز وجل بعباده أن فتح لهم باب التوبة والعودة إليه مهما بلغت ذنوبهم وخطاياهم

التوبة باب عظيم من أبواب الوقاية، فالإنسان العاصي إن لم تفتح له أبواب التوبة سيستمر في اقتراف الذنوب والمعاصي والشرور بأنواعها.

 

والتوبة لها آثارها الإيجابية على الفرد والمجتمع، فالتوبة تعطي الإنسان الأمل وتمنحه السلام النفسي، وتشجعه على ترك المعاصي والذنوب، وفتح صفحة جديدة في تعامله مع الخالق عز وجل، وتعامله مع الناس.

 

والتوبة تحمي المجتمع من تكرار الجرائم، وبخاصة الجرائم المتسلسلة التي يفقد أصحابها الأمل في أن يكونوا أفرادًا صالحين في المجتمع، ويدفعهم اليأس والنقمة إلى الاستمرار في إلحاق الأذى بالآخرين.

 

ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن فتح لهم باب التوبة والعودة إليه مهما بلغت ذنوبهم وخطاياهم، ولو لم تشرع التوبة لفسد الإنسان وفسدت الأرض، فعدم وجود التوبة يعني تأنيب الضمير المستمر، وتكدير الحياة والتفكير في الانسحاب منها أو اللجوء لإيذاء النفس بالانتحار، أو التفكير في إيذاء الآخرين.

 

وقصة الرجل الذي قتل مائة نفس فيها الكثير من الدروس: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا. فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهبٍ فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا. فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله. فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجلٍ عالم. فقال: إنه قتل مائة نفس. فهل له من توبة؟ فقال: نعم. ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا. فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم. ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصَف الطريقَ أتاه الموت. فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط. فأتاه ملك في صورة آدمي. فجعلوه بينهم. فقال: قيسوا ما بين الأرضين. فإلى أيتهما كان أدنى، فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد. فقبضته ملائكة الرحمة» (صحيح مسلم:2766).

 

وفي هذا الحديث جملة من الفوائد ومنها: عدم اليأس من رحمة الله عز وجل، والمبادرة إلى التوبة، والبحث عن أهل العلم، فالعابد أفتى بجهل فكان جزاؤه القتل، وكل ما فعله العالم هو أنه فتح باب التوبة والأمل أمام الرجل القاتل، وأرشده إلى تغيير البيئة السيئة التي يعيش فيها لأنها من الأسباب التي شجعته على التمادي في القتل وإزهاق أرواح الأبرياء.

 

يقول د. وهبة الزحيلي: "الشريعة الإسلامية تستهدف في أحكامها حماية مصالح الدنيا، وحفظ مقاصد الآخرة، بل إن الدنيا في الحقيقة مزرعة الآخرة، كما ورد في الأثر. وبناء على هذا فلا يتصور أن تكون التوبة سببًا في ضياع مصلحة الجماعة في تطبيق العقوبة، ولا وسيلةً تؤدي إلى الإغراء بالمعاصي والتجرئة عليها أو تسهيل ارتكابها، وإنما على العكس تكون التوبة الصادقة مساعدة على استئصال شأفة الجريمة، لأنه إذا كانت الغاية الأولى للعقاب هي إصلاح المجرم، فإن التوبة أقوى تأثيرًا في تحقيق تلك الغاية لصدورها عن باعث ذاتي واقتناع داخلي. فهي إذن تفتح باب الأمل أمام المخطئين، وتدفعهم إلى معترك الحياة بروح إيجابية جديدة وحيوية وفعالية منتجة" (الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ص، 5553).

والله عز وجل حث عباده على التوبة، يقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]. يقول الله عز وجل: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:74].

ومن فضل الله عز وجل على التائبين أنه يبدل سيئاتهم حسنات. يقول الله عز وجل: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:70].

والله عز وجل يفرح بتوبة عبده، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» (صحيح مسلم:2747).

وأرجى آية في كتاب الله عز وجل كما يقول العلماء هي قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] لما فيها من البشارة للعصاة والمذنبين، والوعد بمغفرة الذنوب، والتذكير برحمة الله عز وجل.

والإسلام لا يعرف اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل، ولا يعرف مفهوم رجال الدين، ولا يوجد فيه صكوك للغفران، ولا توجد فيه واسطة بين العبد وربه، فباب التوبة مفتوح، ورحمة الله واسعة، وفضله على عباده عظيم، وكلها أمور تشجع الفرد المسلم على التوبة وترك الذنوب وتجنب آثارها النفسية، وتعطيه الأمل في رحمة الله عز وجل، وبذلك يستطيع القيام بوظيفته الأساسية وهي عبادة الله عز وجل، وأداء دوره في الاستخلاف وعمارة الحياة.

والتوبة فيها وقاية من التمادي في المعاصي والذنوب، وفيها قطع للتسويف ووسوسة الشيطان، وهي بمثابة دعوة لفتح صفحة بيضاء نقية خالية من الشرور والآثام، تخلص الإنسان من أثر الذنوب والمعاصي، وتفتح أمامه أبواب الرحمة والمغفرة.

والتوبة تقرب الإنسان من الله عز وجل الذي أخبر أنه يحب التوابين، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].

محمد خاطر

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي - العدد 606