خطب مختارة - [27] الأخوة الإسلامية 2-2

منذ 2016-01-20

إن أمر الأخوة الإسلامية عظيم، وغفلة المسلم عنها أعظم، ولقد أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كل من غشهم في معاملته فقال: «من غشنا فليس منا» [صحيح مسلم:101]، بل أخرج منهم من لم يُجل كبيرهم ويرحم صغيرهم؛ لأن ذلك الرجل ضعفت عنده تلك الأخوة فلم يعد يشعر بأن من حوله أخوة له يأنف أن يغشهم وتنقاد نفسه راضية طيعة لإجلال كبيرهم ورحمة صغيرهم.

الخطبة الأولى

عباد الله: إن أمر الأخوة الإسلامية عظيم، وغفلة المسلم عنها أعظم، ولقد أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كل من غشهم في معاملته فقال: «من غشنا فليس منا» [صحيح مسلم:101]، بل أخرج منهم من لم يُجل كبيرهم ويرحم صغيرهم؛ لأن ذلك الرجل ضعفت عنده تلك الأخوة فلم يعد يشعر بأن من حوله أخوة له يأنف أن يغشهم وتنقاد نفسه راضية طيعة لإجلال كبيرهم ورحمة صغيرهم.

إن مدار ذلك على شعور المرء أنه بين إخوة له يحبهم ويحبونه ويحب لهم ما يحب لنفسه، أو شعوره أنه فرد غريب في وسط غابة من الوحوش وعالم من الأشباح فلا يدخر وسعًا في إظهار نفسه عليهم مهما كانت السبل لذلك ولا يجد غضاضة في تحقير كبارهم أو الغلظة على صغارهم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام عن مثل ذلك الشخص «ليس منا». إنك ترى في حديثين اثنين – نذكرهما الآن – ما يبين لك حرص هذه الشريعة الغراء على بناء الأخوة الدينية بين المسلمين والحفاظ على قوتها وتماسكها، وفي المقابل دحر كل ما يضعفها أو يخالف نهجها.

أرأيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه» [صحيح أبي داود:5124]، فأي أخٍ هذا أتراه أخاه في النسب أم في الوطن أم زميله في العمل أو في تشجيع فكرة معينة أو ناد رياضي هلك به المخذولون؟ كلا وليس ذلك ولا قريبًا من ذلك ولكنه أخوه في الدين الذي أحبه لما يرى منه من طاعة الله ولزوم أمره حين ذاك ينبغي لهذا الشعور الباطن الخفي أن يخرج ويصرح به فيقول: (إني أحبك) وهو موعود على ذلك بوجوب محبة الله له كما قال سبحانه فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم:  «وجبت محبتي للمتحابين في» [حلية الأولياء:21/124].

أرأيت ؟ إن الجزاء على ذلك ليس مالًا ولا عقارًا ولا ولدًا، لكن الجزاء أن يحبك الله جل وعلا فالله أي جزاء هذا ؟! وفي المقابل ترى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعزى عزاء الجاهلية فأعِضُّوه بهنّ أبيه ولا تُكَنُّوا» [السلسلة الصحيحة:1/538]، وحيث قال رجل عند أبي بن كعب: «يا لبني فلان، قال له أبي: اعضض أير أبيك. فقال الرجل: ما عهدناك فاحشًا يا أبا المنذر! قال: بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» .صححه الألباني. فانظر كيف كان ممنوعًا على المسلم أن يجعل لنفسه عصبية الإسلام وحمية لغير المسلمين وعزاء بغير الإسلام من نعرات الجاهلية والقومية والقبلية أو غيرها.

ثم تعاهدت شريعة الإسلام هذا البناء الذي قام بين المسلمين، فجعل الله أعظم الأجر والثواب في رأب صدعه وإصلاح ما فسد منها وشد ما ضَعُف؛ إذ قد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الساعي في إصلاح ذات البين له أجر الصائم القائم قال: «فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» [صحيح الترمذي:2510].

فتَبصَّر – بَصّرك الله بالحق – كيف جعل قيام بناء الأخوة وتحققها في قلوب المؤمنين أساسًا لقيام الدين وسلامته وجعل فساد ذات بينهم ونفرة قلوب بعضهم من بعض لا تُضْعِف الدين فقط بل تحلقه كما يحلق الشعر. فأي أمر غفلنا عنه وأي رابطة فرطنا فيها ؟ وأي عروة أطلقتها أيدينا ؟!!

إذا رأيت – يا أخي – تشييد ذاك البناء القلبي والرباط الشعوري العظيم والحرص على كل ما يقويه ودحر كل ما يوهنه فإن خلال ذلك ما يكون مقويًا ومخذلًا، ولذا رغب الله ورسوله في نفع المسلمين ما تيسرت لذلك سبيل ووعد من نفّس عن مُسلم كربة من كرب الدنيا أن يُنَفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة، كما جاء في الصحيح وكما روى الدارقطني من قوله صلى الله عليه وسلم: «أحب العباد إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأعظم الأعمال عند الله تعالى سرور تدخله على قلب مسلم أو تفرج عنه كربًا أو تقضي عنه دينًا» [صحيح الجامع:176].

وفي المقابل يقول صلى الله عليه وسلم: «وما من امرئ خذل مسلما في موطن ينتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته» [حلية الأولياء:8/204] أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وكما أوجب الله محبته لمن أحب فيه فقد أذن بحربه من عادى أولياءه المتقين فقال تعالى فيما رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» [صحيح البخاري:6502].

اللهم ارزقنا حبك؛ وحب من يحبك؛ وحب العمل الذي يقربنا من حبك، أقول ما سمعتم وأستغفر الله ....

الخطبة الثانية

عباد الله: إننا حين نشكو من تسلط الأعداء وانتشار المعاصي والسكوت عليها بين المسلمين وعدم اهتمام بعضهم ببعض، بل قل سعي بعضهم ضد بعض لنتساءل كيف بالمسلمين لو قامت بينهم تلك الأخوة؟ كيف بهم لو كان أحدهم يرى العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه مثل بيته وينظر إلى المسلمين كما ينظر إلى أسرته ويحمل في قلبه المودة والحب والدعاء في ظهر الغيب لجاره المسلم وإن خاصمه كما يحمل ذلك كله لإخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. بل حتى من لم يجمعهم به زمن واحد فماتوا قبله أو جاءوا بعده {وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر :10].

كيف ستكون حاجة أحدهم وهم كالبينان يشيد بعض بعضًا، وكيف تكون مأساة أحدهم وهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، كما وصفهم نبيهم صلى الله عليه وسلم وكيف سيكون الأعداء أمام أمة بهذه الصفة لا يجدون فيها مطمعًا ولا في رجالها مدخلًا «فهم سواسية يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم» [صحيح ابن ماجه:2189]، كما وصفهم نبيهم صلى الله عليه وسلم.

كثيرًا منا قصر في ذلك، وإن آخرين يفعلونه، ولكن ربما فعلوه عادة أو حياءً أو لأمر آخر وربما غابت عنهم نية العبادة واحتساب الأجر، ولو نوى ذلك واحتسبه لكان له من الله أجزل الثواب {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف :44]، ولا ينبغي أن يحملها الإنسان أو يأتيها وهو يجهل مداها وأبعادها.

فتلك الأخوة أمر تعبدي شرعه الله ورسوله، ووعد الله عليه أعظم الجزاء في الدنيا والآخرة، وإن آثاره لترى وتعمل في آحاد المسلمين ومجتمعاتهم ومن مات منهم ومن سيأتي بعدهم، كما ترى في أعدائهم ودخلائهم الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، بل إنك إذا أقمت ذلك الشعور في نفسك وعملت به فإن نفعه أكثر ما يكون لك، لا لغيرك فانظر – مثلًا– حبك لسلف الأمة أتراه ينفعهم أو ينفعك؟ وماذا تستطيع أن تقدم لهم وقد ماتوا من أزمنة سحيقة غير دعائك – ونعما هو؟ لكن نفعه لك أعظم وأجدى ولعله أن يلحقك بهم كما في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: إني ما أعددت كثير صلاة ولا عمل غير أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب. قال أنس: فوالله ما فرحنا بمثل هذه البشارة» [صحيح ابن حبان:147]، فإنا نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولم نعمل مثل أعمالهم.

وخذ مثلا آخر: تعاطفك مع المسلمين هنا وهناك، في البوسنة أو كشمير أو غيرهما، فهل ترى شيئًا من وجدك وحرقتك قد رحل لينصرهم غير ما تدعو لهم به ولكنه ينفعك أنت إذ ما أحببتهم في دينهم ولا أسيت لهم إلا من أجل ما تسحب به من أخوة دينية قوية نحوهم وذلك خليق أن يحقق لك أوثق عرى الإيمان ففي الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» [السلسلة الصحيحة:4/307].

اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام.                  

 

 

المقال السابق
[26] الأخوة الإسلامية 1-2
المقال التالي
[28] الأدب مع الله تعالى