آفات النفوس والأحداث

منذ 2016-02-09

المقصـود أن البــدع لا تنفـــك عن أهواء النفوس وأدوائهــا ورعونتها؛ ولذا أطلق أهل السُّنة على المبتدعة (أهل الأهواء). وإذا كانت البدعة قد تفضي إلى الشرك، فإن الهوى قد يكون إلهاً يُعبَد من دون الله. قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: ٣٢].

آفات النفـوس  ودسائسها لا حصر لها، وما يعتري النفوس البشرية من اعوجاج وتلوُّن واضطراب يتعذر استيعابه، وكما قال أحد الشيوخ لابن القيم: "آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر؛ فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها، والاشتغال بقتلها انقطع، ولم يمكنه السفر قط، وَلْتكن همتك المسير، والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امضِ على سيرك".

ولزوم السنة اعتقادًا وحالًا يهذِّب النفوس، ويحقق استقرارها، ويستلزم حياة طيبة، ويورث ثباتًا وطمأنينة، فلا ترى في هذه النفوس المطمئنة عِوَجًا، ولا تلحظ تناقضًا أو تحولًا، بل هي في منأى عن الإفراط والتفريط، وعافيةٍ من غوائل التقصير والغلو.

وسلفنا الصالح لَـمَّا حذروا من الابتداع والإحداث في دين الله تعالى فلأجل ما يقتضيه من تشريع دينٍ لم يأذن به الله تعالى وما تخلِّفه البدع من اندراس السنن، ووقوع العدواة والبغضاء، وحرمان التوبة، والتعرُّض للعقاب والوعيد.
كما أنهم على دراية بأهواء النفوس، وطبائعها وحظوظها، وما يكتنف هذه النفوسَ من آفات وعلل؛ إذ يكشف الابتداع عن نفوس معتلَّة، تقارف تنصُّلًا عن لزوم الصراط المستقيم، وتعاني اضطرابًا وتناقضًا، واندفاعًا جامحًا ونشاطًا محمومًا في سبيل الابتداع في الدين، ومضاهاة الشرع المنزَّل، إضافة إلى ما تكابده هذه النفوس من تناقض بين التنظير والتأصيل وبين التطبيق والتنفيذ.

فالتفلت من لزوم الشرع: هو من خبايا النفوس الملتوية وآفاتِ أرباب البدع، ويقترن بهذا الروغان عن السُّنة اجتهادٌ ظاهر، وجَلَدٌ متواصل في التشبث بالبدع وإذكائها، وهذا ما جاء في الحديث الصحيح بشأن الخوارج: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم..» [صحيح البخاري: 5058]،
وأشار الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى هذا (النشاط البدعي) بقوله: "اقتصاد في سُنة خير من اجتهاد في بدعة".

فنفوس أهل الأهواء يعتريها الكسل والعزوف عن اتباع الشرع، لكنها سرعان ما تنشط وتندفع في مقارفة البدع، بكل شوق واستمتاع! ولَـمَّا قيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أَنسيتَ قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: ٣٩]؟

وكَشَف أبو الوفاء ابن عقيل هذه الدسيسة النفسانية بقوله: "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاعٍ وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور...".

وأما الإمام الشاطبي فله معرفة متينة بآفات نفوس المبتدعة وحظوظها، وقد أفصح عن ذلك بتحقيقٍ وتحريرٍ، فكان مما قاله رحمه الله: "إن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس؛ لأنه أمر مخالف للهوى، وصادٌّ عن سبيل الشهوات؛ لأن الحق ثقيل، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل؛ لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع. ومن الدليل على ذلك ما قاله الأوزاعي: "بلغني أن من ابتدع بدعةً خلاَّه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء، لكي يصطاد به"، وقال بعض الصحابة: "أشد الناس عبادةً مفتونٌ" ويحقق ما قاله الواقع، كما نُقل عن الخوارج وغيرهم؛ فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيمَ والجاهَ والمالَ؛ وما ذاك إلا لخفَّةٍ يجدونها في ذلك الالتزام، ونشاطٍ يُداخلهم، يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى".

ومن آفات النفوس التي تصاحب الابتداع في دين الله تعالى: داء الكِبْـر وحبُّ الظهور وازدراء الآخرين، وهـذا ما قرره ابن تيمية لَـمَّا أورد مفاسد البدعة، فقال: "مسارقة الطبع إلى الانحلال من رِبقة الاتباع، وفوات سلوك الصراط المستقيم؛ وذلك أن النفس فيها نوعٌ من الكبر؛ فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع حسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله : "ما ترك أحد شيئًا من السُّنة إلا لِكِبْر في نفسه".

وكذا الشاطبي أَلْـمَح إلى هذا الوباء قائلًا: "لم يتبين للمبتدع أنه ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ؛ فرأى من نفسه أنه لا بد لِـمَا أُطلِق الأمر فيه من قوانين منضبطة وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حبِّ الظهور والذكر بالمناقب التي ينفرد بها، واستنباط الفوائد التي لا عهد بها؛ إذ الدخول في غُمار الخلق يميت الهوى؛ لعدم الظهور، أو عدم مظنته".

وجزم العلاَّمة ابن الوزير أن داء الكبر والعُجْب لا يفارق عموم المبتدعة، فقال رحمه الله: "الغالب على أهل البدع شدة العُجْب بنفوسهم، والاستحسان لبدعتهم، وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروه أول مرة من ذلك، كما حكى الله تعالى ذلك في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: ٣٩]. وهي من عجائب العقوبات الربانية، والمحذرات من المؤاخذات الخفية. وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات، ودليل العقوبة في ذلك أنك ترى أهل الضلال أشد عُجْبًا وتيهًا وتهليكًا للناس واستحقارًا لهم. نسأل الله العفو والمعافاة من ذلك كله".

ومهما يكن فإن تلك النفوس المشحونة بالكبر والتعالي، سرعان ما يتقشع ذلك عنها ويعقبه المهانة والصغار؛ إذ يعاقب الله تعالى هذا الصنف بنقيض قصدهم، فتتساقط دعواهم العريضة، وينكشف عوارهم وعجزهم، كما حرره ابن تيمية قائلًا: "هكذا شيوخ الدعاوى والشطح يدَّعي أحدهم الإلهية وما هو أعظم من النبوة، ويعزل الربَّ عن ربوبيته، والنبيَّ عن رسالته، ثم آخرتُه شحَّاذ يطلب ما يُقِيتُه، أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته؛ فيفتقر إلى لقمة، ويخاف من كلمة؛ فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمِّنة للغنى والعز؟".

وأما ما يعلق بنفوس المبتدعة من التناقض والاضطراب فهذا مما يصعب حصره، لا سيما الروافض الإمامية، والذين يتعسر إيراد اضطرابهم وتخبُّطهم، وكما قال عنهم الدهلوي رحمه الله: "من استكشف عن عقـائدهــم الخبيـثة، وما انطووا عليه، علم أن ليس لهم في الإسلام نصيب، وتحقق كفرهم لديه، ورأى منهم كلَّ أمر عجيب واطلع على كل أمر غريب، وتيقن أنهم قد أنكروا الحسي، وخالفوا البدهي الأولي، ولا يخطر ببالهم عتاب، ولا يمرُّ على أذهانهم عذاب أو عقاب؛ فإن جاءهم الباطل أحبوه ورضوه، وإذا جاءهم الحق كذبوه وردُّوه". وسأكتفي بمثالين: 

أحدهما: المرجئة: فإن الإرجاء دين الملوك - كما قال النضر بن شميل في حضرة الخليفة المأمون- ويقال: فلان مرجئي يتبع السلطان، ويرون طاعة الأمراء مطلقًا وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ظنًا أن ذلك من باب ترك الفتنة!، ثم هم يتناقضون؛ فالجهم بن صفوان من غلاة المرجئة ولكن خرج على بني أمية، والحارث بن سريج يرى الإرجاء، وقد خرج على نصر بن سيار، وقد وصف الأميرُ عبد الله ابن طـاهر (ت 230هـ) المرجئـة فقـال: "لا يرون للسلطان طاعة".

وأما المثال الآخر: فأرباب التعبد المحدث (التصوف): فإنهم يتشدقون بالمثالية الجامحة والرهبانية الحادثة، بينما هم منغمسون في الشهوات والملذات، وسماعٍ ورقصٍ، وصحبة مردان ونسوان، فهذه المثالية الـمُفْرِطة تخالف الشرع والعقل والفطرة؛ إذ تسعى إلى استئصال نوازع البشر، وقمع الغرائز، واجتثاث الشهوات، فأعقب ذلك إغراقًا في المذات، وانتكاسًا في حضيض الشهوات.

وقد أشار ابن الجوزي إلى ذلك بقوله: "إن قومًا منهم وقع لهم أن المراد رياضة النفوس لتخلُص من أكدارها المردية، فلما راضو مدة ورأوا تعذُّر الصفاء قالوا: مالنا نتعب أنفسنا في أمر لا يحصل لبشر، فتركوا العمل".

وأحد أدعياء التصوف المعاصرين قدَّم أمثلة جليَّة على هذا التناقض المكشوف والاضطراب المعهود عنه وعن أسياده، فبينما هو يلوِّح في الفضائيات متحدثًا عن الذوق الرفيع والتذوق اللطيف؛ إذ يدعو إلى العكوف في المزابل والنفايات طلبًا لتهذيب النفوس، وتراه يصنِّف في السلوك، وتزكية النفوس، ورقَّة الشعور، ثم لا يغادر لَـمْزَه وبغيَه على السلف الصالح.

والمقصـود أن البــدع لا تنفـــك عن أهواء النفوس وأدوائهــا ورعونتها؛ ولذا أطلق أهل السُّنة على المبتدعة (أهل الأهواء). وإذا كانت البدعة قد تفضي إلى الشرك، فإن الهوى قد يكون إلهاً يُعبَد من دون الله. قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: ٣٢].

 

د. عبد العزيز بن محمد آل عبداللطيف